مجزوءة: ما الإنسان؟
مفهوم: المجتمع
المحور الثاني: المجتمع والفرد
المحور الثاني: المجتمع
والفرد
الطرح الإشكالي:
ما علاقة الفرد بالمجتمع؟
أيهما يسبق الآخر ويعمل على تشكيله؟ وهل الفرد مجرد كيان خاضع للمجتمع، أم أنه ذات
فاعلة فيه أيضا؟ ألا يمكن القول إن العلاقة بينهما جدلية إذ تقوم على التأثير
المتبادل؟
تحليل ومناقشة نص للسوسيولوجي الفرنسي نوربرت إلياس (الكتاب
المدرسي في رحاب الفلسفة أولى باك علوم تجريبية، ص 50).
نموذج تطبيقي:
يقدم لنا التاريخ نماذج لشخصيات سياسية ودينية وعلمية...الخ. استطاعت
التأثير في مجتمعاتها والإسهام في تغييرها. لكن يظل هؤلاء الأفراد جزءا لا يتجزأ
من مجتمعاتهم. إنهم نتاج مجتمعاتهم ومحيطهم، وأبناء بيئاتهم. هذا التقابل يضعنا
أمام مشكلة علاقة الفرد بالمجتمع التي يعالجها النص قيد الدراسة، والذي
يتمحور حول مجال ما الإنسان؟ ولذلك يمكن صياغة هذه المشكلة في الأسئلة الآتية:
ما طبيعة العلاقة القائمة بين الفرد والمجتمع؟ أهي علاقة تأثير من جانب واحد، أم
صلة تفاعل وجدلية؟ بتعبير آخر: هل الفرد مجرد كيان خاضع لإشراطات وإكراهات
المجتمع؟ أليس ذاتا فاعلة فيه أيضا ما دام ذاتا مفكرة؟
يدافع نوربرت إلياس N.Elias عن موقف مضمونه أن الفرد ليس مجرد موضوع سلبي خاضع للمجتمع، بل
إنه قادر على التأثير فيه أيضا، وبالتالي فالعلاقة بين الفرد والمجتمع قائمة على
التفاعل والجدلية. فكيف دافع صاحب النص عن دعواه؟
استهل السوسيولوجي نصه بعرض الحوار الدائر بين
موقفين متعارضين بخصوص علقة الفرد بالمجتمع. الأول يعتبر أن "كل شيء يرجع إلى
الفرد". أما الثاني فيرى أن "كل شيء يرجع إلى المجتمع". بتعبير
أوضح إن الموقف الأول يقوم على اعتبار الفرد ذاتا فاعلة مفكرة، ولذلك فهو أصل
المجتمع، إذ هو مصدر أو بالأحرى المنتج لثقافة المجتمع (أي مجموع العادات
والتقاليد والمؤسسات والأنظمة السياسية والاقتصادية السائدة داخل مجتمع معين).
وخلافا لهذا يرى أنصار الطرح الثاني أن المجتمع- بوصفه كيانا معنويا يطغى على
الفدر ويتجاوزه- هو الذي يشكل ويصنع الفرد، أي أنه يبني شخصيته، ويؤثر فيما يكتسبه.
فالمجتمع بهذا المعنى يسبق الفرد ويتحكم فيه. ينتقد نوربرت إلياس هذين
الموقفين كاشفا أوجه قصورهما؛ لأنها ينظران إلى الفرد والمجتمع وكأنهما جوهرين
متمايزين، أي ككائنين مستقلين عن بعضهما البعض وقائمين بذاتهما. إن صاحب النص
يرفض هذه الفكرة، ويحاول أن يثبت أن الفرد، وإن كان يستمد طريقة سلوكاته من
المجتمع، ومن التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها، وتخضع قراراته للإكراهات
والإشراطات الاجتماعية. إلا أن هذا ليس مبررا للقول بأن الفرد مجرد موضوع سلبي أو
كيان خاضع للمجتمع. ذلك أنه قادر على التأثير في مجتمعه، والإسهام في تشكيله، ما
دام فاعلا فيه. لذلك يمكن أن نعرف الفرد -حسب صاحب النص- بوصفه ذلك الكائن
الإنساني الذي يتأثر بمجتمعه، ويؤثر فيه أيا. كما أن المجتمع يحيل -في هذا
السياق- على مجموع الأفراد الذين يتفاعلون فيما بينهم.
يوضح ن. إلياس دعواه من خلال تشبيه علاقة المجتمع
والفرد بالعملة النقدية حيث يكون الفرد هو العملة النقدية المطبوعة والآلة
الطابعة في الوقت نفسه. بمعنى أن الفرد يتأثر بمجتمعه (عملة مطبوعة)، ويؤثر فيه
أيضا (آلة طابعة). لذلك فالعلاقة بين المجتمع والفرد ليست قائمة على الانفصال أو
التأثير من جانب واحد، وإنما هي علاقة جدلية وتفاعل. فإلى أي حد تبدو هذه
الأطروحة مقنعة؟ ما قيمتها الفلسفية؟ وما حدودها؟
تكتسي هذه الأطروحة قيمة فلسفية بالنظر إلى كونها قد حاولت تجاوز الأطاريح الفلسفية
التقليدية التي تناولت مشكلة علاقة الفرد بالمجتمع من منظور أحادي البعد، منتصرة
بذلك للفرد على حساب المجتمع أو العكس. من قبيل موقف السوسيولوجي الفرنسي إ.
دوركايم E.Durkheim الذي اعتبر المجتمع بمثابة كيان معنوي
يتجاوز الفرد ويطغى عليه. أي أن الفرد مجرد كائن خاضع للمجتمع. هذا الأخير هو كذلك
مصدر القيم الأخلاقية والضمير الأخلاقي والواجبات التي توجه سلوكات الأفراد، ويكفي
أن نستحضر مثال اللغة التي يعتبرها دوركايم ظاهرة اجتماعية بامتياز. هذا المثال
يوضح بأننا ندين بالشيء الكثير للمجتمع. وإذا أدركنا أن اللغة ليست مجرد أداة
للتواصل، بل إنها أيضا حاملة للثقافة والفكر، فإننا سندرك آنذاك أن عقليتنا
الفردية نتاج المجتمع الذي نشأنا فيه.
إن كان هذا الموقف مُهما؛ لأنه يبرز أن الفرد ابن بيئته،
ويكشف لنا البعد الاجتماعي للإنسان، فإنه، بالمقابل، يغفل فاعلية الفرد
وقدرته على الإسهام في بناء المجتمع، وينظر إليه بصورة أحادية اختزالية. لذلك نجد الفيلسوف
الفرنسي آلان رونو A.Renaut يؤكد-خلافا لموقف دوركايم-
أن الفرد في المجتمع الحديث كائن مستقل وأنه "منبع تمثلاته وتصوراته النفسية
ومصدر أفعاله" على حد تعبيره. بمعنى أن الفرد بوصفه ذاتا مفكرة صار قادرا -في
المجتمعات الحديثة التي شهدت ظهور وتكريس الحداثة- على أن يستمد المعايير والقيم
الموجهة له من ويه وإرادته. بعبارة أوضح إن الفرد أصبح يتمتع، داخل هذه المجتمعات،
باستقلالية فيما يخص اختياراته، وقراراته، ومعتقداته...الخ. الأمر الذي مكّنه من
أن يصير مواطنا فاعلا في الحياة السياسية، لا أن يظل مجرد "رعية".
تبين؛ إذن، أن ن. إلياس يقدم موقفا تركيبيا يتجاوز
النظرة الأحادية والاختزالية التي تَسم النزعتين الفردانية والاجتماعية. وهنا
تكمن أهمية أطروحته القائمة على القول بتفاعل الفرد والمجتمع، والتي حاول
تدعيمها بمجموعة من الحجج المقنعة نسبيا. وإذا جاز لنا القول إن هذا التصور يبدو
واقعيا إلى حد كبير؛ لأنه ينطبق على الكثير من المجتمعات، إلا أن هذا الأمر
يختلف من حيث الدرجة من مجتمع لآخر. ففي المجتمعات التقليدية يطغى الجانب
الاجتماعي على الجانب الفردي، حيث يتدخل لا يُسمح للفرد باختيار توجهاته الفكرية
والسياسية...بعيدا عن "عباءة" المجتمع والقبيلة...الخ. وخلافا لذلك تسود
النزعة الفردانية في المجتمعات الحديثة، حيث يتمتع الفرد بمساحة أكبر من الحرية
والاستقلالية.
عطفا على ما سبق نستخلص أن الإنسان يتجاذبه هذان البعدان: الاجتماعي من جهة،
والفردي من جهة أخرى. وإن طغيان أحدهما على الآخر في بعض المجتمعات، وفي بعض
اللحظات التاريخية، لا ينفي بصورة كلية البعد الآخر. ولعل رهان هذا الإشكال
يتمثل في ضرورة العمل على التوفيق بين نزوعنا نحو الفردانية والاستقلالية من
ناحية، وبين انتمائنا إلى مجتمعنا (المغلق) والإنسانية (مجتمعنا المفتوح) من ناحية
ثانية.
إنجاز: اسماعيل فائز
0 التعليقات
إرسال تعليق