مفهومي: النظرية والتجربة
تقديم:
قد يبدو أن
الجمع في عبارة واحدة بين مفهومي النظرية والتجربة جمع يستعصي على الذهن أن يدركه، وعلى القلم أن يخطه، إذ لا
يخفى ما يجمع بينهما من تعارض وتنافر
أولي، لأن الأولى تشير إلى ما هو مجرد
تأملي عقلي، خلافا للثانية التي تقترن بما هو حسي واقعي مادي، فما
دلالة المفهومين أولا؟ يعرف الفيلسوف الفرنسي "لالاند " النظرية في
موسوعته الفلسفية بأنها: "إنشاء أو تنظير للعقل، يربط النتائج
بالمبادئ، ويأخذ على كاهله تفسير عدد من
الوقائع"" (موسوعة لالاند
الفلسفية ص 1454).
ويتضح من خلال هذا التعريف أن النظرية بناء
(ليست معطا جاهزا) يستند إلى العقل، ويوظف مجموعة من العمليات العقلية
أهمها: الاستدلال والبرهنة، كما
يتبين أن وظيفة النظرية هي تفسير الوقائع
(الظواهر) للكشف عن الأسباب المتحكمة فيها.
أما مفهوم التجربة فيتخذ معنيين: " بالمعنى
العام: خبرة يكتسبها الإنسان عمليا أو
نظريا (...) بالمعنى الخاص: "التدخل في مجرى الظواهر للكشف عن فرض من الفروض
أو التحقق من صحته، وهي جزء من المنهج التجريبي ، أي التجريب باعتباره عملية
إعادة بناء الظاهرة المدروسة مخبريا وفقا
لشروط محددة قصد التحقق من صحة القضية". (المعجم الفلسفي ص 38).
وإذا كانت العلاقة بين النظرية والتجربة
تنبني على التضاد والصراع ظاهريا (على الأقل) فإن التأمل فيهما يدعونا إلى اكتشاف
نوع من الترابط الوثيق بينهما. وأمام هذه المفارقات والإحراجات نتساءل: ماهي شروط
بناء المعرفة العلمية؟ وماهو دور كل من
النظرية والتجربة في إنتاج المعرفة
العلمية؟ وما العلاقة بين النظرية والتجربة؟ أهي علاقة تضاد وانفصال، أم علاقة تفاعل وتكامل؟
المحور الأول: التجربة والتجريب
البناء الإشكالي:ما الفرق بين التجريب والتجربة؟ وهل الاعتماد
على التجريب الواقعي تهميش لدور العقل؟ ثم
ألا يظل التجريب الواقعي عاجزا عن تفسير الظواهر؟
بالمقابل ألا ينبغي إدماج الخيال والتجربة الذهنيةفي بناء المعرفة العلمية ؟
خطوات المنهج التجريبي: (دعوىC.Bernard نموذجا)
يؤكد كلود برنار أن بناء المعرفة العلمية رهين ومشروط
باتباع خطوات المنهج التجريبي الأربع وهي:
1- الملاحظة: وهي معاينة الظواهر المدروسة
باستعمال الحواس أو الآلات والتقنيات ،وهي مساءلة منهجية (غير عفوية لظواهر الطبيعة) بحيث يعمل العالم على نقل هذه الظواهر
كماهي بدون تعديل أو تغيير(الموضوعية).
2-الفرضية (الافتراض): بعد ملاحظة العالم
للظاهرة يقوده هذا الأمر إلى طرح فرضية أو فرض، أي فكرة أو مجموعة أفكار مؤقتة
مقترحة بناء على ملاحظات العالم قصد تفسير (الكشف عن العلاقات السببية) الواقعة المدروسة.
3- التجريب (التحقق التجريبي): في هذه
المرحلة ينتقل العالم إلى التحقق تجريبيا من صحة فرضيته، وذلك بإعادة إحداث
الظاهرة المدروسة داخل المختبر، تبعا لشروط معينة، مع ضرورة تكرارها، لإثبات صحة
الفرضية.
4-صياغة القانون: بناء على التجريب الذي
أجراه العالم وبعد التأكد من صحة (صدق) الفرضية يستنتج العالم القانون العلمي
(القضية العامة) الذي يشير إلى علاقة ثابتة بين ظاهرتين أو أكثر (الذي يسمح
بالتنبؤ).
ولتأكيد صحة
هذه الأطروحة قدم "كلود برنار" مثال تجربة علمية أجراها على
الأرانب. ومن هنا نخلص إلى القول بأن بناء المعرفة العلمية يستند إلى التجريب
الواقعي أساسا، فهل يمكننا بالفعل تهميش
دورالخيال والتجارب الذهنية؟
إدماج عنصرالخيال : (موقف R.Thom نموذجا)
يقول روني توم "لا وجود لفرضية بدون وجود شكل من
أشكال النظرية، وتتضمن النظرية دائما كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها".
ويقول
أيضا: "إن التجريب وحده عاجز
عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما، ففي جميع
الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي،
هذه القفزة نحو الخيالي هي أساسا عملية ذهنية أو تجربة ذهنية".
ينتقد
العالم الرياضي روني توم
المنهج التجريبي في صيغته الكلاسيكية، مبرزا
قصوره وعجزه عن بناء معرفة علمية، ويتضح هذا من خلال
حاجة التجريب إلى العقل والخيال
لتفسير ظاهرة ما. ذلك أن تفسير الظواهر المدروسة يستلزم حضور "كيانات خيالية" تتجلى أساسا في فكرة السببية (مبدأ السببية). إذ لا
يكفي ملاحظة تتابع ظواهر ما للربط بينهما بشكل سببي ما لم تحضر فكرة السببية. أضف إلى ذلك أن بناء العلم المعاصر في حاجة إلى إدماج عنصر الخيال
والتجارب الذهنية، نظرالاستحالة إجراء تجريب مخبري في صورته التقليدية على مجموعة
من الظواهر، كالظواهر الميكرو-فيزيائية
(المتناهية الصغر) والماكرو-فيزيائية (المتناهية الكبر). دون أن ننسى تعذر إجراء
هذا التجريب المخبري عند غياب الأدوات والآلات الضرورية.ومن هنا يصبح إدماج الخيال
والتجارب الخيالية-الذهنية ضرورة لا مناص منها.(يمكن استحضارتجاربG.Galilei وB.Pascale الذهنية...).
وعطفا على ما تقدم ذكره يبدو أن تأسيس المعرفة العلمية مشروط بحضورالتجريب الواقعي المخبري، دون أن نغفل بأن
تعدد وتعقيد الظواهر التي يدرسها العلم تفرض ضرورةإدماج عنصر الخيال والتجربة
الذهنية. فماهي طبيعة المعرفة العلمية؟
المحور الثاني: المعرفة العلمية
الطرح الإشكالي:ماهي طبيعة
المعرفة العلمية؟ أهي نظرية رياضية، أم تجريبية واقعية؟ أليست هذه المعرفة مفتوحة على العقل والتجربة معا؟ ثم
هل العقلانية العلمية تقوم على مفاهيم
اليقين والإطلاق، أم ترتكز على النسبية والاحتمال؟ وأخيرا كيف يتطور
تاريخ العلم؟ (تاريخ تراكمي اتصالي / تاريخ ثورات وقطائع ابستمولوجية).
نقد
النزعة العقلانية: (دعوى H.Reichenbachنموذجا)
ينتقد العالم الألماني "هانز
رايشنباخ" النزعة العقلانية، ويشبهها بالمثالية الأفلاطونية ويدرجهما معا تحت
مسمى المذهب العقلي، أي التوجه الفلسفي الذي يقول بقدرة العقل
على بناء المعرفة في استقلال عن
الواقع والتجربة. ولذلك لا يمكن الحديث عن
عقلانية علمية في نظر الفيلسوف، وذلك
بالنظر إلى كون المعرفة العلمية تنبني أساسا على توظيف مناهج
معقولة، أي تطبيق العقل على دراسة الظواهر الفيزيائية.
وبالتالي فالعقلانية أو المذهب العقلي قد ينتجان
معرفة فلسفية لكنهما عاجزان عن إنتاج
معرفة علمية. ويذهب الإبستمولوجي الألماني إلى حد اعتبار العالم الرياضي
أقرب إلى النزعة العقلانية (الفلسفية) والنزعة الصوفية (التي تؤكد قدرة الحدس
وحده، كمعرفة مباشرة بدون وسائط، على بلوغ
الحقيقة) وذلك حين يعمل على بناء أنساق
رياضية ترتكز على الاستنباط المنطقي،
وتهمل العودة إلى التجربة والواقع.
وبعبارة أخرى إن بقاء العالم الرياضي في دائرة العلم مشروط بعدم تهميش الواقع الفيزيائي.
يتضح إذن أن هانز رايشنباخ يولي أهمية للتجربة دون أن ينفي دور العقل.
العقلانية المطبقة أو المفتوحة : (موقف G.Bachelardنموذجا)
ينتقد
الابستمولوجي الفرنسي "غاستونباشلار" كلا من العقلانية
والتجريبية، مبرزا أن الأولى بدون تجربة تظل فارغة، وأن الثانية بدون عقل تبقى عمياء. ولذلك يدعونا إلى تجاوز هذه الثنائية المغلقة. ذلك
أن إنتاج
الفيزياء المعاصرة خاصة، والعلوم
المعاصرة عموما، لا يتأتى إلا بوجود حوار فلسفي - أي تفاعل- بين العالم العقلاني
والعالم التجريبي. فلم يعد من الممكن الحديث عن تعارض العقل مع التجربة ، بل ينبغي التأكيد على العلاقة الجدلية التي تربط بينهما،
وما يؤكد هذا الأمر هو أن الواقع العلمي الذي تدرسه الفيزياء المعاصرة لم يعد واقعا معطى وجاهزا
بقدر ما أنه صار واقعا مبنيا وعقليا (نموذج الذرة الذي تدرسه الميكرو فيزياء هو
نموذج متخيل مثلا). أضف إلى ذلك أن
الحجج أو البراهين العقلية ينبغي أن
ترتبط دوما بالتجربة. ولذلك فالأصوب في
نظر باشلار الحديث عن عقلانية مطبقة أو عقلانية مفتوحة، وهذا ما يعبر عنه
الفيلسوف عندما يقول: "التجريب في
حاجة لأن يفهم ، والعقلانية في حاجة إلى
التطبيق".
وتأسيسا
على ما ذكر يتضح أن بناء المعرفة العلمية يظل في حاجة إلى حضور كل من
العقل والتجربة، حتى لا نجنح
بالمعرفة نحو متاهات اللاعلم
(التصوف مثلا )كما يبدو أن العقلانية
العلمية المعاصرة تتأسس على مفاهيم
الجدلية والحوار والنسبية والاحتمال... مما يعطي للمعرفة العلميةطابعا نسبيا. فماهي
معايير علمية وصلاحية النظريات؟
المحور
الثالث: معايير علمية وصلاحية
النظريات
الطرح الإشكالي:ما معايير علمية وصلاحية النظريات؟ هل يكفي معيار
التحقق التجريبي لإثبات علمية وصلاحية نظرية ما؟ بالمقابل ألا ينبغي أن تتسم
النظرية بالتماسك المنطقي كشرط لقبول
علميتها وصلاحيتها ؟ ثم ألا يمكن القول إن تعقيد الظواهر المدروسة يقتضي استحضار مبدأ
القابلية للتكذيب للكشف عن علمية النظرية؟
معيار التحقق التجريبي : دعوى النزعة
التجريبية نموذجا : انظر(ي) أطروحة كلود برنار.
يقر رواد
النزعة التجريبية بضرورة الاحتكام إلى معيار الاختبار التجريبي للفصل في علمية وصلاحية النظرية، من خلال إعادة
بناء الظواهر التي يدرسها العالم داخل المختبر، وطبقا لشروط محددة للتأكد من
صحتها. بعبارة أوضح ينبغي على النظرية – إن هي أرادت أن تحوز صفة العلمية
والصلاحية أوالصدق – أن تتطابق مع معطيات الواقع التجريبي (مثال تجربة كلود
برنار). فإلي أي حد يسمح تطور العلوم المعاصرة بالاحتكام إلى معيار التحقق
التجريبي؟
مبدأ القابلية للتكذيب= التزييف: (موقف K.Popperنموذجا)
ينطلق الابستمولوجي النمساوي كارل بوبر من
نقد النزعة التجريبية التي اعتبرت التجريب المعيار الوحيد لإثبات علمية وصدق
النظرية، ويبرز ما يعتري هذا المعيار من قصور ناتج عن صعوبة إخضاع كل الظواهر
للتجريب (الظواهر الإنسانية، الظواهر الماكرو-فيزيائية والميكرو-فيزيائية مثلا...)
أضف إلى ذلك مشكلة الاستقراء التي تتمثل في صعوبة
تعميم نتائج التجريب على كل
الظواهر. ولتجاوز هذه النقائص يقترح علينا كارل بوبر مبدأ القابلية للتكذيب أو
التزييف كمعيار للفصل في علمية النظرية.
إن حيازة النظرية صفة العلمية لا يتحقق إلا بعد تقديمها لجملة من
التنبؤات أو النتائج أو المبادئ التي تقبل الدحض والتفنيد، وبالمقابل فكل نظرية
تزعم خلوها من نقط ضعف،وتتشبت بيقينها المطلق هي نظرية لا تنتمي إلى مجال العلم
التجريبي.
ويبدو واضحا أن هذا الموقف صادر عن قناعة إبستمولوجية
مفادها أن العلم مجال للمعرفة النسبية المتغيرة (إذ "النظريات العلمية فانية وهي فانية لأنها علمية" كما يقول
الإبستيمولوجي الفرنسي إدغار موران).
في الختام يتبين مدى صعوبة الإحتكام إلى معيار واحد للحكم
على علمية وصلاحية (صدق) نظرية ما.
فإذا كان معيار التحقق التجريبي
يواجه صعوبات، فإن التماسك المنطقي كذلك لا يخلو من مشكلات، مما دفع الابستمولوجيين إلى اقتراح بدائل اخرى كمبدأ القابلية للتكذيب، ومعيار
تعدد الاختيارات. فعلمية وصحة النظرية مشروطة بجملة من الاختبارات التي ينبغي أن تخضع لها.
0 التعليقات
إرسال تعليق