مفهوم الحقيقة
تقديم:
يبدو أن الإنسان في سعيه
لبناء معرفة حول ذاته وحول الكون يتوخى من وراء ذلك كله بلوغ الحقيقة، سواء
أكانت غاية في حد ذاتها (التصور الفلسفي القديم) أم كانت مجرد وسيلة (بعض التصورات
المعاصرة) . ولعل أول سؤال يصادفنا في هذا السياق هو ذلك المتعلق بماهية الحقيقة.
يكشف استقراء مختلف التصورات الفلسفية عن مفهوم
الحقيقة صعوبة الحسم في دلالة هذا المفهوم. فإذا كانت النزعة التجريبية تقارب هذا
المفهوم من زاوية تطابق الفكر مع الواقع ("تطابق
ما في الأذهان مع ما في الأعيان") فإن الفلسفة العقلانيةخلافا لذلك ركزت على كون الحقيقة هي تطابق الفكر مع مبادئه، أي انسجام القضايا
فيما بينها وخلوها من التناقض. وإذا
كان المنظور الأخلاقي للحقيقة يقر بوحدتها
وإطلاقها، ويعتبر التصريح بما واجبا أخلاقيا. فإن التوجه الفلسفي المعاصر يكشف عن
ارتباط الحقيقة بأبعاد عملية
وبمفاهيم ذات طبيعة واقعية (من قبيل
المنفعة والسلطة...).
وتأسيسا على ذلك
يتبين أن مفهوم الحقيقة يتضمن جملة من المفارقات والإحراجات،ويستدعي نقائضه كالوهم
والخطأ والكذب ولا ينفصل عنها في آن واحد. ومن هذا المنطلق نتساءل هل الحقيقة معطى
جاهز، أم أنها بناء يستند إلى مناهج محددة ؟ وماهي معايير الحقيقة ؟ أهي تجريبية واقعية، أم منطقية ؟ وفيم تكمن قيمة الحقيقة ؟ هل يتعين الحديث عنها بصيغة المفرد، أم بصيغة الجمع (الحقائق)؟
المحور الأول: الحقيقة والرأي
الطرح الإشكالي:ما علاقة الحقيقة بالرأي؟ أهي علاقة تعارض وتنافر، أم صلة امتداد وتطوير؟ وهل ينبغي مراجعةالآراء في
أفقإقامة قطيعة معها ؟ بالمقابل ألا يمكن
أن تكون منطلقا لتأسيس الحقيقة؟
الرأي معرفة احتمالية (دعوى G.W.Leibniz نموذجا)
يقول ليبنيز : "إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة،
وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف".
لا ينظر الفيلسوف
الألماني إلى الرأي بشكل سلبي، بقدر ما يرى الجاتب الإيجابي فيه، فيعتبره نوعا من
المعرفة التي تتسم بطابعها الاحتمالي. ولا يمكن إقصاء الرأي بشكل جذري من مجال
المعرفة، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى استبعاد معارف تقوم أساس على الاحتمال، من
قبيل المعرفة التاريخية (يمكن أن نستحضر أيضا الممارسة السياسية التي تقوم على
الرأي والاحتمال). فالتاريخ مثلا مجال لترجيح رأي على رأي، وليس مجال حقائق يقينية
قطعية.ولتعزيز موقفه استحضرليبنيز مثال رأي كوبيرنيك الذي شكك في مركزية وثبات
الأرض، مقابل أراء علماء عصره، فلو تم استبعاد فكرة كوبيرنيك بحجة أنها مجرد رأي
احتمالي، فإن ذلك كان سيعيق تقدم علم الفلك.
من هنا فإن الرأي-
رغم طابعه الاحتمالي- يمكن أن يشكل منطلقا لتأسيس الحقيقة.
الرأي عائق ابستمولوجي (موقف G.bachelard نموذجا)
يقيم غاستونباشلار
تعارضا واضحا بين المعرفة العامية (الرأي) والمعرفة العلمية (الحقيقة العلمية). ذلك
أن الأولى ترتبط بجوانب نفعية عملية، خلافا للثانية التي تنظر إلى موضوعاتها من زاوية نظرية مجردة. وإذا
كان الرأي معطى جاهزا وخاطئا على الدوام (من الناحية المبدئية) إذ يفتقد التفكير،
ولا ينبني على أسس وحجج متينة، بقدر ما يتأسس على التداول والنقل، فإن العلم بناء مستمر غير مكتمل يقوم على تجاوز
وتصحيح الأخطاء ("تاريخ العلم تاريخ تصحيح الأخطاء" كما قال باشلار). وانطلاقا
من هذا يعتبر الرأي عائقا ابستمولوجيا يمنعنا من بناء معرفة علمية موضوعة، ولذلك ينبغي التجرد منه وإقامة
قطيعةابستمولوجية معه.
تركيب المحور: صفوة القول أن الرأي حتى ولو اعتبرناه معرفة
احتمالية كما يؤكد الفيلسوف الألماني ليبنيز فإنه يظل غير مؤسس على مرتكزات وحجج
متينة، الأمر الذي يبرز الحاجة إلى وضع آرائنا موضع مراجعة دائمة بغية تأسيس حقائق
نسبية. فماهي معايير الفصل بين الحقيقة واللاحقيقة؟
المحور الثاني: معايير الحقيقة
التأطير الإشكالي:ماهي معايير الفصل بين الحقيقة واللاحقيقي؟
وهل ينبغي الاحتكام إلى المعيار التجريبي،
أم المعيار المنطقي الصوري؟ ألا تقاسالحقيقة بجدواها وفائدتها (المعيار البراغماتي
العلمي) ؟
الحقيقة الصورة والحقيقة المادية ( أطروحة D.Hume نموذجا)
يصنف الفيلسوف
الانجليزي دافيد هيوم الموضوعات التي يشتغل عليها العقل الإنساني إلى صنفين:
علاقات الأفكار فيما بينها، وعلاقات
الأفكار بالوقائع. ترتبط الأولى بالحقيقة
العقلية (الصورية) التي يتم التوصل إليها
من خلال الاستدلال البرهاني أو الحدس
المباشر، ويتوقف صدقها على استجابتها لشرط التماسك المنطقي وانسجامها وخلوها من
التناقض. فهي "حقائق ضرورية ونقيضها
غير ممكن بل مستحيل" كما يقولLeibniz. أما النوع الثانيفيرتبط
بالحقيقة الواقعية التجريبية (المادية) وصدقها يقترن بمدى تطابق الأفكار مع الوقائع، ولذلك فهي تقبل التناقض
(ففكرة أن الشمس ستشرق غدا جائزة عقليا كما أن نقيضها مقبول أيضا). و إذا كانت الحقيقة
العقلية أكثر بداهة ووضوحا، فإن الحقيقة الواقعية
تظل بداهتها أقل وضوحا.
ومن منطلق النزعة
التجريبية التي يتبناها دافيد هيوم فهو يعتبر الحقيقة العقلية مقدمة لبناء الحقيقة التجريبية. ونستشف بأن إثباث
الحقيقة يقترن بمعيارين: أحدهما عقلي صوري، والآخر تجريبي واقعي.
المعيار البراغماتي (تصور W.James نموذجا)
إذا كان
العقلانيون يهتمون بتماسك الأفكار فيما
بينها منطقيا، وإذا كان التجريبيون يركزون على تطابق الفكر مع الواقع، فإن الفلسفة البراغماتية- خاصة
مع الأمريكي وليام جيمس- ستضع معيارا آخر لصدق وصلاحية الأفكار والنظريات العلمية
والسياسية والأخلاقية والدينية... يقوم
أساسا على الفائدة التي يمكن للفرد
والمجتمع أن يجنيها من هذه الأفكار. فما هو مفيد لنا معنويا وفكريا يبدو صحيحا، وما
هو مفيد لنا عمليا وسلوكيا يبدو صائبا. بتعبير آخر "حقيقة فكرة ما ليست خاصية متضمنة فيها وتبقى غير فاعلة" "الحقيقة
هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما [...] إنها
تكتسب صلاحيتها بإنجازها لعمل" كما يقول وليام جيمس.
استنتاج عام : في الختام يبدو أن من الصعب إيجاد معيار واحد نحتكم إليه للتمييز بين الحقيقة واللاحقيقة. وتباين
المعايير بين ما هو عقلي، وما هو تجريبي، وما هو
براغماتي يوحي بتعدد الحقائق
وتباينها. وكذا صعوبة وضع حواجز فاصلة بين الحقيقة واللاحقيقة.
المحور الثالث: قيمة الحقيقة
التأطير الإشكالي: فيم تكمن قيمة الحقيقة ؟ أهي غاية في ذاتها، أم مجرد وسيلة ؟ وهل تقترن بمفاهيم الحكمة واليقين، أم بالمنفعة والسلطة؟ أي هل ينبغي مقاربتها من زاوية أخلاقية أم من منظورعملي؟ وإلى
أي حد يمكن القول بأنها تتسم بالإطلاق
والثبات؟ أليست نسبية متغيرة؟
قول الحقيقة واجب: (موقف E.Kant نموذجا)
يقول كانط: قول الحقيقة واجب
يتعين اعتباره أساس وقاعدة لكل الواجبات".
يسعى إيمانويل
كانط إلى بناء مفهوم الحقيقة على أسس
يقينية مطلقة بحيث تغدو مفهوما كونيا. ولذلك يدعونا إلى النظر إليها من زاوية
أخلاقية، فيعتبر أن قول الحقيقة بمثابة
واجب أخلاقي، أي أنها أمر أخلاقي قطعي (يتأسس على الإرادة الطيبة أو الحسنة وصادر عن العقل العملي
الأخلاقي) لا ينبغي أن نراعي فيه الظروف
أو السياقات أو النتائج. وبالتالي فلا شيء- في نظر كاتط- يبرر الكذب.وفي هذا
السياق يقدم كانط مثالا شهيرا مفاده أنه من غير المقبول الكذب على مجرمين يسألونك
عن صديق لك يطاردونه، إذ يتعين حتى في هذه الحالة قول الحقيقة، فهل بالفعل تتحدد قيمة الحقيقة في بعدها الأخلاقي، أم أن واقعنا
يكشف خلاف ذلك؟
الحقيقة بنت السلطة (دعوىM.Faucault نموذجا)
يدافع الفيلسوف
الفرنسي عن موقف مؤداه أن فهم طبيعة الحقيقة يستدعي استحضار علاقاتها
المتشابكة وغير البريئة بالسلطة، ذلك أن
الصراع حول الحقيقة وحول إنتاج الخطاب
يتضمن سعيا نحو امتلاك
السلطة (بمفهومها الواس الذي يشمل أو الجسم الاجتماعي ككل). وفي هذا السياق
يبرز الفيلسوف الفرنسي أن عملية
إنتاج الخطاب تخضع للمراقبة والتنظيم والتوزيع وفقا لآليات
وإجراءات محددة، أبرزها آلية المنع أي
منع الحديث عن موضوعات بعينها وفي ظروف
معينة ومن قبل ذوات ما،(منع الحديث عن الجنس والسياسة والدين مثلا). الأمر الذي
يعني أن إنتاج الحقيقة ليس غاية في حد
ذاته، بقدر ما أنه وسيلة من أجل كسب الصراع حول السلطة.
تركيب المحور:في الأخير بوسعنا القول إن السعي نحو بناء
الحقيقة ليس سعيا بريئا دوما. فإذا كانت الغايات الأخلاقية والمعرفية تدفعنا لمحبة
الحقيقة، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا تلك العلاقات "المشبوهة" بين
الحقيقة من جهة، والمصلحة والسلطة من جهة أخرى. لذا تظل الحقيقة بناء إنسانيا
نسبيا.
.
0 التعليقات
إرسال تعليق