مفهوم: التاريخ
تقديم:
يتسم الوجود الإنساني (بالإضافة إلى تعقيده
وتركيبه) بتاريخيته أي بكونه وجودا يخضع للصيرورة والدينامية (التغير). ولذلك فالإنسان كائن تاريخي بمعنيين على
الأقل: فمن جهة أولى لا الإنسان يتوقف عند حدود اللحظةالتي يعيشها، إذيستحضر
الماضي في الحاضر ويستشرف المستقبل. ومن جهة ثانية فهو يسعى دوما لبناء معرفة حول ماضيه
(الفردي والجماعي)
. وإذا كان التاريخ يحيل في معناه (بوجه
خاص)إلى الأحوال المتعاقبةالتي مرت عليها البشرية، فإنالتأمل في هذا المفهوم
يدعونا إلى التركيز على زاويتين:إحداهما تتعلق بما هو إبستمولوجي= معرفي (المعرفة
التاريخية)، والثانية تقترن بماهوفلسفي (فلسفة التاريخ - منطق التاريخ ودور
الإنسان فيه). فمن الناحية الأولى يبدو الإنسان ذاتا عارفة قادرة على
استعادةالماضي كما حدث من خلال اعتماد مناهج دقيقة صارمة والاشتغال على الآثار
التاريخية...بيد أن الهوة الزمنية الفاصلة بين الماضي والحاضر، والصعوبات التي
تعترض المؤرخ (وأبرزها حضور الذاتية) تدفعنا إلى التشكيك في علمية التاريخ: فهل
التاريخ فعلا علم؟[1] وهل يمكن
استعادة الماضي كما حدث ؟
ومن الوجهة الثانية (الزاوية الثانية) نجد أن
الفيلسوف يتوخى– وهو يفكر في مسار التاريخ – الكشف عن منطق يحكم أحداث التاريخ
وقوانين توجه تلك الوقائع، ويتساءل عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به الإنسان في
صناعة التاريخ: فإلى أي حدتحضر فكرة التقدم داخل التاريخ؟ وماهو الدور الذي يلعبه
الإنسان في بناء وصناعة أحداث التاريخ ووقائعه؟[2]
المحور الأول: المعرفة التاريخية
البناء الإشكالي :أيمكن بناء معرفة حول الماضي الإنساني؟ هل
يمكن للمؤرخأن يقدم معرفة علمية وموضوعية حول هذاالماضي؟ ألا يشكل حضور الذاتية
عائقا يحولدونتحقيقذلك ؟ ثم هل التاريخعلم، أم أنه مجرد فنقائم على السرد والحكي؟
علمية
التاريخ: (موقف Henri-Irénée Marrou نموذجا )
بدايةيعرف مارو التاريخ بأنه "معرفة الماضي الإنساني". نافيا اعتباره مجرد
عمل أدبي أو سرد للماضي. ذلك أن
غايةالمؤرخبناء الحقيقة التاريخية، وقصد بلوغ
هذه الغاية نجده يتوسل الدراسة والبحث. ثم يقيم الفيلسوفتقابلا بين المعرفة
التاريخية (من جهة)، والأسطورة والروايةالتاريخية والقصص الشعبية... من جهة ثانية إلخ.
على ضوء هذا يعدل مارو تعريف السابق للتاريخ
بالقول إنه"المعرفة العلمية المكونة عن الماضي"، أي أنه معرفة علمية مبناة
مبناةوقائمة على منهجصارم، وتتسم بالموضوعية، خلافا للمعرفة العامية (والمعارف
المشار إليها سابقا) التي ترتكز على ماهو معطى جاهز، ويطغى عليها البعد الذاتي...
يدافع الفيلسوف،إذن، عن عملية وموضوعية
التاريخ، باعتباره معرفة مبناة وتتأسس على منهج صارم تتعارض مع المعرفةالعامية[3].
وبدوره انساقابن خلدون في هذا التوجه مميزا بين ظاهر التاريخ-الذي يقتصر على سرد
وحكي الأحداث والوقائع-وباطن التاريخ الذي يهتم بالنظرفي صحة وواقعية الأحداث،
والتحقق منها، والعمل على تفسيرها، لاستخلاص الأسباب والقوانين المتحكمة فيها.
فإلىأي مدى يستطيع المؤرخالتجردمن ذاتيته؟
المؤرخ
ورهان فهم الماضي: (دعوى Raymond Aron نموذجا).
خلافا للتوجه الأول يقر السوسيولوجي الفرنسي
"ريمون آرون" بأن المعرفة التاريخية تستند إلى جملة من الآثار والوثائق
التاريخية مما يجعلها ممكنة،لكن الرهان الأساس أو الرئيس للمؤرخ، والذي يتجلىفي
فهم "عالم الذين عاشوا قبلنا"، أي التعرف على دلالات ومعاني ما صدر عنهم
من سلوكات،أو أفعال، أو ممارسات، أو طقوس،يظل أمرا بعيد المنال، لأن هذه المعرفة
بالماضي هي معرفةغير مباشرة - تتمبناء علىالآثار التاريخية- وغيردالة- أي غير
مفهومة- (فممارساتالفراعنة القديمة مثلافيما يتعلقبتحنيطالمومياءات، وطريقتهم في دفن
الموتىتبدو ممارسة غريبة عنا نحن الذين نعيش في الحاضر). ولذلك تتعارض المعرفة
التاريخية مع معرفة الحاضر أو "العالم الذي يحيط بنا"، لأن هذه
الأخيرة مباشرةوتلقائية ومفهومة (فنحن
نفهممثلا معاني الحافلة والحاسوب...).
ومن هنا يمكن أن نستخلص أن الهوة الزمنية
الفاصلة بين الماضي والحاضر تمنع المؤرخ من فهمالماضي كما حدث، مما يدفعنا للتشكيك
في علمية المعرفة التاريخية.
تركيب المحور:خلاصة القول إن المعرفة التاريخية تظل نسبية،
ولا يمكنالجزم في علميتها ويقينها، إذ تعترض المؤرخ عدة عوائق : أبرزها صعوبة
التجرد من الذاتية، وكذا المسافة الزمنية-الثقافية التي تفصل الحاضر عن الماضي.
فإلى أي مدىيمكنلهذه المعرفة أن تكشفلنا عن وجود منطق تنتظم داخله أحداث التاريخ؟
المحور الثاني: فكرة التقدم في التاريخ (منطق
التاريخ)
الإشكال المحوري:هل يسير التاريخ بشكلتقدمي وغائي، أم أنه قد
يعرف تراجعات وانحرافات؟ وهل هو نسق مفتوح على الصدفة والعرضية، أم أنه
خاضعلمنطقونظاممعين؟ وهل يتوجه التاريخ- دوما- في منحى خطي متصل، أم أن ذو منحى
حلزوني؟ ألا يمكنالقول أنه نسق مفتوحعلى الفجائية بحيث يصعب التنبؤ بأحداث التاريخ
؟
التقدم
الكمي والكيفي (دعوى Herbert Marcuse نموذجا)
يدافع هربرت ماركوز عن حضور فكرة التقدم في التاريخ،
ويصنفه إلى مستويين: الأول كمي تقني يتجلى في تزايد معارف ومهارات وكفاءات الإنسان
(الثورة المعلوماتية مثلا)، وكذا تمكن الإنسان من بسط سيطرته على الطبيعة
واستغلالها، الأمر الذي نتجعنه ازدياد الثروة الاجتماعية، وتحسين المستوىالمعيشي
للإنسان، وكذا مضاعفة حاجات الإنسان وإشباعها (الهاتف، السيارة...). أماالمستوى
الثاني فيقترن بتلاشيظاهرة العبودية ،وتحقق الحرية الإنسانية وانهيار مجموعة من
الديكتاتوريات وتأسيس الديمقراطيات (أوربا الشرقية، أمريكا اللاتينية...) في
اتجاهتحقيقالماهية الإنسانية. ويبرزالفيلسوف الألماني وجود تداخل بين وجهي التقدم
السالف الذكر، إذ التقدم الكمي شرط التقدم الكيفيوجزء منه (فأوروبا مثلا شهدت
ثوراتعلمية وصناعية واكتشافاتجغرافيةمهدت الطريق لتأسيس الديمقراطيات)، غير أن هذا
التداخل لا يتم بشكلأتوماتيكي مباشر.فهل يصح الحديث عن حتمية هذا التقدم؟
منطق
وعرضيةالتاريخ: (دعوى Maurice Merleau-Ponty نموذجا)
خلافا للتوجه الأول يستحضر ميرلوبونتي التصور
الماركسي، (وضمنيا أيضا تصور هربرتماركيوز) لنقده، وذلك من خلال الحديث عن مفهومي
منطق التاريخ وعرضية التاريخ. فالأول يتضمنفكرتي وجود تسلسل ونظاميوحد كل أحداث
التاريخ من ناحية (أشبه ما تكونبسمفونية واحدة)، كما يتضمن القول بحضوردلالة
إنسانيةتختفي(أوتثوي)وراءكل وقائع التاريخ من ناحية ثانية. (تتضحهذهمن خلال
تأكيدهربرتماركيوز مسبقا على أن التقدم التقني شرط يمهد التقدم ذي البعد الإنساني).
وإذا كانالفيلسوف الفرنسي لا ينفيمنطق
التاريخفإنه يعتبره مجردإمكانيةمن بين إمكانات أخرى. ولذلكيدعونا للحديث عنعرضية
التاريخ(بدل منطق التاريخ) حيثالتاريخنسق مفتوحعلى الصدفة والفجائية وإمكانية
انحراف وقائع التاريخعن مسارها.(لنتأمل مثلا في مسار الثورة الفرنسية التي حملت
شعار: الحرية- المساواة- الإخاء- فأنتجت لنا بعد ذلك استعمار واستغلال فرنسا بعد
ذلك لشعوب عدة...). فهليعني هذا أن دور الإنسانفي صنع التاريخأساس ؟
المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ
الإشكال المحوري: مادور الإنسان في التاريخ ؟ هل الإنسان صانع
للتاريخ وفاعل فيه، أم أنه مجرد أداة في "يد" التاريخ؟ وهل التاريخ نتاج
الفعالية الإنسانية ؟ ثم أليس ثمرة جملة من الشروط والحتميات والقوى الموضوعية
(طبيعية- إلاهية،- مادية...)؟
التناقض محرك التاريخ: (دعوى Karl
Marx نموذجا)
يقول ماركس: لم يكنتاريخ أي مجتمع، إلى
يومناهذا، إلا تاريخ الصراع ويقولأيضا: " إن نمطإنتاجالحياة المادية
يشرطسيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عموما".
يؤكدكارل ماركس أن تاريخ الإنسانية هو
نتاجالصراع الطبقي، ونتاجتناقض بين مصالح تلكالطبقات،وكذاالتناقضالذي يطبع صلة
قوىالإنتاج بعلاقاتالإنتاج فيؤدي إلى تغيير أنماطالإنتاج، الشيءالذي يؤثربدورهعلى
تغيير وعي الناس. وبعبارة أخرىإن الناسيحتاجون إلى الدخولفي علاقاتإنتاجمادي بغية
إنتاج الشروطالمادية الكفيلةباستمرارهم (الأكل، اللباس...)، غير أن"علاقات
الإنتاج"تلك (العبد/السيد-الإقطاعي/ القن- البورجوازي/ البروليتاري) ترتبطبدرجةتطور
"قوىالإنتاج" (فالانتقالمثلا مننمطالإنتاج[4]
الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي جاء نتيجةتطور وسائل الإنتاج أي ظهور الآلة
البخارية وحدوث الثورة الصناعية)،ومعا (علاقات وقوى الإنتاج) يشكلان ما يدعوه مؤسس
الماركسية ب"نمط الإنتاجالمادي"أو البنية التحتية، أي
الشروطالمادية والاقتصاديةللوجود الإنساني، والتي تنتجالبناء الفوقي أي وعي
الإنسانوفكره عموما.
يتبين إذنأن التاريخ نتاجحتميات وشروط مادية
واقتصادية موضوعية(مستقلة عن الإنسان)، دون أنيعني هذا نفي دور الإنسان، إلا أنهيظل
مشروطابتلك الحتميات.
الإنسان صانع التاريخ (دعوى J.P
Sarter نموذجا)
يستحضر سارتر التصور الماركسي (Karl
Marx، Friedrich Engels) ليقدم لناقراءة وتأويلا لهذا الفكر من
المنظور الوجودي، ولذلك أبرز الفيلسوف وجود نوع من التعقيد والتناقض داخل هذ الفكر،
والذي يمكن أن نستجليه من خلال الاستشهاد بعبارة الفيلسوف الانجليزي فريدريك انجلز:
"إن البشر يصنعون تاريخهم على أساس الشروط المادية والواقعية السابقة".إن
هذه العبارة تؤكد من جهة بأن الإنسانفاعل تاريخي، ومن جهة أخرى تتضمن القول وجود
شروط واقعية واقتصادية تحكم صناعة الناس للتاريخ.
ولتجاوز هذا التناقض يقترح علينا رائد
الوجودية مفهوم "البراكسيس" باعتبارهتلك الممارسة الإنسانية التي تتسم
بالدينامية (الحركية) والتي تمكننا (تمكن الذات والغير) من تجاوز تلك
الشروطالسالفة الذكر والتعالي عليها، وذلك عن طريق تسخيرها، والانفتاح على حقل
"الممكنات"بالنظرلكون الإنسان مشروعا. ويستدل جان بول سارتر
بالماركسية نفسها التي تسعى إلى بناءنظرية عامة حول التاريخ (أي اكتشاف القوانين
المتحكمةفي التاريخ) في أفق توحيد الحركة العمالية، كطبقة قادرة على الثورةعلى
النظام الرأسمالي، وتحقيق الاشتراكية والشيوعيةبعد ذلك.
تركيب المحور: وبناء عليه نستنتجأنفاعليةالإنسان في
التاريختظل محدودة ونسبية، مادام نفي الشروط الموضوعية أمرا متعذرا. ولكن بالمقابل
لا يمكن اعتبار الإنسان مجرد أداة في يد التاريخ يفعل فيها فعله الخاص، مادام
الإنسان ذاتا واعية، ومادام التتبؤ بمسار التاريخ- بشكل حتمي- أمرا صعب المنال،
بالنظر لخصوصيات الظاهرة التاريخية، والظاهرة الإنسانية عموما. فهل يعني ذلك صعوبة
بناء معرفة علمية حول هذه الظواهر؟
-
المعرفة العلمية: كل دراسة لها موضوع محدد،تعتمد مناهج معينة، تتوصل إلى نتائج
أقرب إلى الدقة ( وتتسم بالموضوعية). على خلاف اللاعلم ( من قبيل الأدب – الفن –
الإيديولوجيا...)
- الموضوعية:
أي القدرة على التجرد من الذاتية والتخلص من انتماءاتالذات(الدينية،السياسية،
الايديولوجية...) أي فصل الذات عن الموضوع.
- التاريخ: معرفةمختلف
الأحوال المتعاقبة التي مرت بها البشرية خصوصا (والمرتبطة بأي موضوعمعرفي عموما
(مؤسسة -جنس حي – علم – تاريخ دولة...).
-
الموضوعية: "مسلك الذهن الذي يرى الأشياءعلى ماهي عليه، فلا يشوهها بنظرة
ضيقة أو بتحيزخاص". المعجم الفلسفي، ص 197.
- الصيرورة:
التغير في ذاتهمن حيث إنه انتقال من حالة إلى أخرى، ويقابل هذا التغير الثبات
والسكون.
- السيرورة:هي
سلسلةمنتظمة من التغيرات، أو سلسلة من الظواهر المتعاقبة والمرتبطة فيما بينها
بنظام ووحدة معينة.
-
تطور: نمو بطيء متدرجيؤدي إلىتحولاتمنظمة ومتلاحقة، ولا يكونالتطور مسبوقا
بتخطيطولا مستهدفا لغايةعلى عكس التقدم.
- التقدم:
انتقال تدريجي من الحسن إلى الأحسن ويتميزبخاصيتين: أ: مسبوق بتخطيط- ب: يستهدف
غاية ما.
- النقد
التاريخي: أي فحص وتمحيص الأحداث والوقائع التاريخية، وينقسم إلى شقين: نقد
داخلييستهدف مضمون الوثائق (صدق الحدث وواقعية الشخصيات مثلا)، ونقد خارجي( ينصب
حول شكل الوثائق والآثار التاريخية لإثباتصحة انتمائها إلى حقبة زمنية معينة).
- نمط الإنتاج: هو النظامالذي تأخذه عملية الإنتاجحسبطبيعةقواهاوعلاقاتها،
خصوصاعلى مستوى نمط ملكية وسائل الإنتاج، (نمط الإنتاجالرأسمالي مثلا).
- علاقة الإنتاج: هي
العلاقات التي تربطبين الناس أثناء عملية الإنتاجالمادي.
- قوى الإنتاج المادي:
هي مختلف الوسائل التي يستخدمها الإنسان في الإنتاجبمافي ذلكالقوى العاملة
(أراضي،آلات،اليد العاملة...).
0 التعليقات
إرسال تعليق