مفهوم: مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
تقديم:
ظلت الدعوة التي
رددها سقراط : "اعرف نفسك بنفسك" حبيسة الخطاب الفلسفي والميتافيزيقي، ولم تحاول الانفلات منه قصد
بناء خطاب علمي وموضوعي حول الظاهرة الإنسانية – على غرار العلوم التجريبية – إلا
في نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م.
ونظرا لأن "العلوم الإنسانية " قد وجدت أمامها نموذج العلوم الطبيعية،
وقد سبقتها إلى تأسيس مناهج مكنتها من
بلوغ درجة مهمة في العلمية، وبالنظر إلى
سيادة الفلسفة الوضعية آنذاك، فقد حاول الباحثون
في "العلوم الإنسانية" النسج على منوال العلوم التجريبية من خلال العمل على موضعة (تشييء) الوقائع الإنسانية، وتفسيرها بمناهج تجريبية استقرائية، بغية تحقيق شرط
الموضوعية.
غير أن التطور
الذي عرفت العلوم عامة، و"علوم
الإنسان" خاصة، كشف عن مدى تعقيد الظاهرة
الإنسانية وتداخل جوانبها ومحدداتها وصعوبة فصل الدارس (الذات العارفة) عن المدروس
(الظاهرة الإنسانية). الأمر الذي سيدفع
إلى التشكيك في قدرة الباحث على بناء خطاب علمي موضوعي حول الإنسان.
وأمام هذه
الإحراجات تتناسل جملة من
التساؤلات أهمها: إلى أي حد يمكن أن يصير الإنسان موضوعا وذاتا للمعرفة العلمية في آن واحد؟ وهل الباحث في حقل "العلوم الإنسانية"
قادر على الإيفاء بشرط الموضوعية؟ ثم هل
ينبغي تفسير الظاهرة الإنسانية، أم السعي لفهمها؟ وأخيرا أي نموذج للعلمية يتوجب على العلوم الإنسانية أن تقتدي به
لبلوغ العلمية؟
المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانية
الإشكالالمحوري:هل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا وذاتا لمعرفة
علمية موضوعية في آن واحد؟ وهل يستطيع
الباحث في العلوم الإنسانية التجرد من ميولاته وانتماءاته الذاتية لبناء
خطاب موضوعي وعلمي ؟ ألا تظل ذاتية الباحث
حاضرة بشكل أو بآخر؟ ثم هل تقبل الظاهرة الإنسانية الموضعةوالتشييئ، أم أنها
ظاهرة ترتبط بالذات الإنسانية (الواعية، الحرة...) وبالتالي تستعصي على كل مسعى
لموضعتها؟
الموضوعية في العلوم الإنسانية ( أطروحة الفيلسوفة R.Bouveresse نموذجا)
تحاول الفيلسوفةبوفريس
نقد ودحضالمنظور الوضعي (لكل من أوغست كونت وإميل دوركهايم...) - الذي يدافع عن
إمكانية بناء خطاب علمي حول الظاهرة الإنسانية، مما يسمح بفصل العلوم
الإنسانية عن الخطاب الفلسفي، والذي يؤكد، أيضا، قدرة الباحث على التجرد من الذاتية والإيفاء بشرط
الموضوعية من خلال موضعة الإنسان ودراسة كل الوقائع الإنسانية التي تقبل الملاحظة والتفسير-لأن المعرفةالتي يمكن
إنتاجها بصدد الإنسان تظل مشبعة بالذاتية في نظر الفيلسوفة، أضف إلى
ذلك أن محاولة تشييء الإنسان يترتب عنها
الاكتفاء بدراسة ما هو خارجي أولي في الواقعة الإنسانية، وإهمال
الجوانب الباطنية... والحال أن الإنسان ذات مركبة (متداخلة الأبعاد) تستعصي على
الموضعةوالتشييئ. من هنا نستنتج أن الفيلسوفة تذهب إلى التشكيك
في علمية "العلوم الإنسانية"، فإلى أي حد يبدو تحقيق الموضوعية
في العلوم الإنسانية أمرا مستحيلا؟
عوائق تحقيق الموضوعية في العلوم
الإنسانية: (دعوى L. Goldmannنموذجا)
في نفس
التوجه الذي سارت فيه الفيلسوفة رينييهبوفريس يؤكد الفيلسوف "لوسيانغولدمان"
على صعوبة بناء خطاب موضوعي حول
الظاهرة الإنسانية. ولتأسيس هذا الطرح يلجأ الفيلسوف إلى عقد مقارنة بين
وضعية البحث العلمي في العلوم الطبيعية من جهة، و"العلوم الإنسانية" من
جهة أخرى. ففي الأولى يحضر إجماع حول طبيعة وقيمة وغاية العمل العلمي، كما أنه
يمكن الإيفاء بشرط الموضوعية من خلال فصل الذات العارفة عن الظاهرة الطبيعية المدروسة.
على خلاف ذلك تحضر
في العلوم الإنسانية اختلافات جذرية (إيديولوجية وسياسية ودينية...) بين مواقف
الباحثين في هذا الحقل، والتي تؤثر على مسار الدراسة. دون أن ننسى صعوبة تجرد
الباحث من أحكامه المسبقة وأحكام القيمة والمقولات المضمرة واللا واعية التي تظل
ثاوية (مختفية) في ذهن كل باحث، وتتدخل بشكل أو بآخر في المعرفة التي ينتجها.من
هنا نستنتج مع "لوسيانغولدمان" أن "العلوم الإنسانية" مشكوك
في علميتها بالنظر إلى صعوبة تحقيق شرط
الموضوعية.
تركيب المحور:عطفا
على ما تقدم يتبين مدى الارتباط الوثيق بين مشكلة موضعة الظاهرة
الإنسانية وموضوعية "العلومالإنسانية"،
وهي مثار نقاش بين التصور الوضعي الذي
يؤكد إمكانية فصل
العلوم الإنسانية عن الخطاب
الفلسفي والميتافيزيقي، الأمر الذي يصعب
تحقيقه في نظر كل من "رينيهبوفريس" و"لوسيانغولدمان" مؤكدين
على الحضور الدائم للذاتية، ومن هنا فعلمية العلوم الإنسانية تظل موضع مساءلة. فأي منهج ينبغي اتباعه لمقاربة الوقائع
الإنسانية ؟
المحور الثاني: الفهم والتفسير (مشكلة المنهج في "علوم
الإنسان")
البناء الإشكالي:أي منهج يبدو ناجعا في مقاربة الظواهر
الإنسانية بشكل علمي؟ وهل الإنسان يفهم، أم يفسر؟ ثم إلى أي حد يمكن التوفيق بين منهجي الفهم والتفسير في حقل
"العلوم الإنسانية" ؟ وماهي أبرز العوائق التي تواجه كلا المنهجين ؟
الوقائع الاجتماعية أشياء: (موقف E.Durkhiemنموذجا)
يقول إميل دوركهايم:" "إن الظواهر الاجتماعية أشياء، ويجب أن
تدرس كأشياء".
يؤكد "إميل
دوركهايم" إمكانية فصل "علم
الاجتماع" عن الخطاب الفلسفي، انطلاقا من التعامل مع الظواهر الاجتماعية
باعتبارها أشياء. وتشير الواقعة الاجتماعية- في هذا السياق- إلى كل طريقة في الفعل تتسم
بنوع من الثبات، وتمارس إكراها على الفرد، وتبدو مستقلة وخارجة عن وعي الأفراد، كما أنها تتصف بالعمومية داخل
المجتمع.
بهذا المعنى يبدو
أن الظاهرة الاجتماعية أشبه بالظاهرة الطبيعة في استقلاليتها وخارجيتها وثباتها ،
ولذلك فالتفسير هو المنهج الملائم لدراسة
هذه الظاهرة. وينطلقهذا المنهج من ملاحظة الظواهر الاجتماعية، وصياغة فرضيات
لتفسيرها، ثم التحقق من صحة هذه الفرضيات من خلال الاعتماد على آليات الإحصاء
والقياس وتقنيات منهجية من قبيل الاستمارة والاستجواب والمقابلات... قصد التوصل
إلى صياغة قوانين علمية تبرز العلاقات الثابتة بين الظواهر الاجتماعية. ويبدو
واضحا تأثير النزعة الوضعية في هذا التصور الذي يستلهم النموذج التجريبي. (مثال
تفسير دوركايم لظاهرة الانتحار). فهل بالفعل تقبل الظاهرة الإنسانية التفسير؟
الإنسان يفهم: (دعوىW.Dilthey نموذجا)
يؤكد وليام دلتاي
ضرورة العمل على فهم الإنسان. فعلى
أية أسس يستند هذا الطرح؟
لبناء أطروحته ينطلق
الفيلسوف الألماني من إقامة مقارنة بين الظاهرة
الطبيعية والظاهرة الإنسانية، فإذا كانت الأولى تتسم بافتقادها للوعي،
وانفصالها عن ذاتية الباحث، وقابليتها للتجزيئوالتفكيك... فإن الظاهرة الإنسانية
على خلاف ذلك تتميز بخصوصيات تجعلها متفردة. فهي ظاهرة واعية ومركبة من أبعاد عدة
بحيث تستعصي على التجزيئ نظرا لتداخل
المحددات التي تكونها...ومن هذا المنطلق فتباين كل من الواقعة الإنسانية والظاهرة
الطبيعية يستتبع ضرورة اعتماد مناهج مختلفة أثناء مقاربتهما. فالعلوم الطبيعية
مطالبة بتفسير ظواهرها، على خلاف العلوم الروحيةالتي تظل مدعوة لفهم
ظواهرها. ويعرف دلتاي الفهم: باعتباره "سيرورة من العمليات التي تنطلق مما هو
ظاهري حسي لإدراك ما هو باطني جواني" وداخل الفهم يحضر النشاط التأويلي
(تجاوز الظاهر نحو الباطن) والحدس كمعرفة مباشرة.
تركيب المحور:وفي الأخير ننتهي إلى القول بصعوبة مقاربة
الظاهرة الإنسانية بمنهج واحد نظرا للصعوبات التي تواجه الباحث وهو يحاول تفسيرها (أهمها
صعوبةتشييئ الظاهرة الإنسانية...) أو فهمها (صعوبة التجرد من الذاتية...) ولأن
الوقائع الإنسانية مركبةومعقدة فهي تتطلب استحضار مناهج ومقاربات عدة. فأي نموذج
للعملية ينبغي اعتماده في ميدان "العلوم الإنسانية"؟
المحورالثالث: نموذج العلمية في العلوم الإنسانية
الإشكال المحوري:أي نموذج للعلمية يجب الاقتداء به في "علوم الإنسان"؟ هل يمكن
العثور على هذا النموذج في حقلالعلوم التجريبية، أم أن "العلوم الإنسانية"
مدعوة لإبداع نموذج خاص بها (النموذج التفهمي التأويلي)؟وماهي أهم الصعوبات التي
تواجه هذين النموذجين؟ ثم إلى أي حد يمكن
التوفيق بينهما؟
عوائق النموذجين التجريبي والتفهمي (موقفJ.Ladrièreنموذجا)
يتساءل لادرييرعن
إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية باستخدام مناهج العلوم الطبيعية، كما يستفهم حول
قابلية الوقائع الإنسانية للموضعة. ثم يعرض إجابتين متقابلتين في هذا الصدد وهما :
1-النزعة الوضعية:القائلة بإمكانية تشييء
الظواهر الإنسانية من خلال وضع الفاعلين بين قوسين(أي استبعاد الفاعلين) والتركيز
على الأسباب الموضوعية لتفسير الظاهرة
الإنسانية.
2- الموقف
التأويلي التفهمي: ضرورة مراعاة خصوصيات الوقائع الإنسانية (التفرد- التركيب-
تداخل أبعادها- القصدية...)وإنشاء منهج يلائم الظواهر الإنسانية، أي الفهم
والتأويل.
ويبرز الفيلسوف التحديات التي تواجه كل موقف على
حدة. فإن كان التصور الوضعي يغفل الأبعاد الداخلية الذاتية (المقاصد والنوايا...)ويهملدور
الفاعل، ويغفل القيموالدلالات والمعاني التي يحملها الفعل الإنساني...فإن المنظور التفهمي
بدوره يواجه انتقادات أبرزها حضور الذاتية (خاصة ذاتية الباحث...). وللخروج
من هذا المأزق يؤكد لادريير الحاجة إلى بناء
نموذج (ثالث) للعملية في حقل العلوم الإنسانية
يتميز بالمغايرة والاختلاف عن النموذج التجريبي، دون إقامة قطيعة معرفية معه. ونستشف مما سبق دعوة
لاديير إلى الاستفادة من كلا النموذجين (التجريبي والتأويلي) في دراسة الوقائع
الاجتماعية خاصة، والإنسانية عامة.
خلاصة تركيبية:وعلى سبيل الختم يتبين أن الحسم في النموذج العلمي الذي ينبغي
الاهتداء به في مقاربة الوقائع الإنسانية
أمر متعذر بالنظر إلى الصعوبات
التي تواجه النموذجين التجريبي التفسيري من جهة ، والتفهمي التأويلي من جهة أخرى.
الأمر الذي يكشف ضرورة الاستفادة من مزايا هذين النموذجين، مع محاولة تجنب الوقوع
في أخطاء المقاربة الأحادية للفعل الإنساني.
0 التعليقات
إرسال تعليق