النص:
"الغير هو الشبيه واللاشبيه في الوقت نفسه: هو شبيه من خلال سماته البشرية و الثقافية المشتركة، وهو لا شبيه من خلال خصائصه الفردية أو من خلال اختلافاته العرقية، يحمل الغير، في ذاته، بالفعل، الغرابة والمشابهة، تسمح لنا نوعية الذات بإدراكها على مستوى مشابهتها، وكذا على مستوى عدم مشابهتها. إن الإنغلاق المتمركز حول الذات يحول الغير إلى كائن غريب، بينما الانفتاح الغيري يحوله إلى كائن متآخي . فالذات بطبعها منغلقة ومنفتحة.
[...] تنغرس مسألة الإزدواجية في أعماقنا النفسية، ويتبين من خلالها أن كل واحد منا يحمل في ذاته أنا آخر، هو في نفس الوقت غريب عن الذات ومطابق لها.(أحيانا نقف أمام المرآة في حالة اندهاش، نحس أننا غرباء عن أنفسنا في الوقت الذي نتعرف عليها أيضا). ويعود السبب في ذلك إلى أننا نحمل في ذواتنا هذه الثنائية (أنا هو الآخر) التي نستطيع من خلالها، إدخال الآخر وإدماجه في ذاتنا على مستوى التعاطف والصداقة والحب [...].
وإذا كانت الذات مهملة فإنها تشعر بالإهانة أو الإعاقة أو الألم. لقد لاحظ روسو عن حق أن الإنسان في حاجة إلى الاعتراف به، وهو ما أكد عليه تودوروف. فالحاجة إلى الغير هي حاجة جذرية، لأنها تشهد على عدم اكتمال الذات/الأنا عندما لا يعترف بها، أي عندما تفتقر إلى الصداقة والحب. لقد كان هوجو على حق عندما قال: "يكمن الجحيم بأكمله في كلمة واحدة هي العزلة".
النص ل"إدغار موران"
المرجع: نصوص فلسفية في الوضع البشري، المعرفة، السياسة، الأخلاق،دار أبي رقراق للطباعة والنشر،الرباط، 2012.(ص ص47-48)
نموذج تطبيقي لتحليل ومناقشة النص
لا نجانب الصواب إن قلنا إن السجن الإنفرادي من أقسى العقوبات التي يمكن أن تتخذ في حق السجين. ولعل التأمل في هذا الأمر يكشف لنا عن الحاجة التي يستشعرها كل واحد منا اتجاه الغير ليتقاسم معه لحظات الفرح والحزن في إطار علاقة الصداقة أو الحب- هذه الحاجة عبر عنها بإبداعية الفيلم السينمائي "وحيد في العالم" Seul au Monde -. بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة التي قد نتخيلها، لا لشيء إلا إن الغير يتبدى بصور أخرى، فهو كذلك مصدر تهديد للأنا في فرديتها، وهو الغريب عنها أيضا، والطرف الآخر في الصراع...نجد أنفسنا، إذن، أمام ثلة من المفارقات التي سيستمد منها الغير طابعه الإشكالي. وهذا النص – الذي نحن بصدد مقاربته - يدخل ضمن هذا السياق، وينفتح على مجال الوضع البشري. وإذ يطرح مشكلتي وجود الغير والعلاقة معه في إطار تحديد ماهيته، فإنه بوسعنا إثارة الأسئلة التالية: مالغير؟ أهو ذلك الأنا الآخر الذي تجمعني به المشابهة، أم الذي تفصلني عنه الغرابة ؟ وهل يشكل وجوده شرطا لوجودي واكتمالي، أم أنه يمثل تهديدا لهويتي وفرديتي؟ ثم إلى أي حد يمكن أن أنسج معه علاقة صداقة وتعاطف؟ أليس حريا بي النظر إليه كغريب يتعين الحذر منه؟
يدافع إدغار موران عن دعوى مضمونها أن الغير شبيه ولاشبيه بالذات. وتتأرجح علاقتها به بين التآخي والغرابة بالنظر لانفتاحها أو انغلاقها. كما أكد على حاجة الأنا الجذرية إلى الغير.
بداية استهل الفيلسوف نصه بتحديد الغير باعتباره ذلك الشبيه واللاشبيه في آن واحد. ويفسر هذا التعريف الذي قدمه. وبعبارة أوضح إن الغير هو ذلك الأنا الآخر الذي يشبهني ويتقاسم معي ثلة من السمات الإنسانية - أي الإنتماء إلى النوع البشري- والثقافية متمثلة في امتلاك الثقافة، وربما الإنتماء إلى نفس الثقافة الإسلامية أو المغربية مثلا. ومع ذلك فالآخر - حتى لو كان أخا توأما لي - يختلف عني في ماهو فردي مثل الميولات والهوايات و طريقة اللباس والذوق الموسيقي و البصمة الوراثية...و قد يختلف عني في الإنتماء العرقي (عرب - أمازيغ - كرد -أتراك...). ويواصل صاحب النص مؤكدا – في إطار إقامة تقابل – أن الإنغلاق المتمركز على الذات، أي اتخاذ موقف الإنطواء والتعالي على الآخرين باعتبارهم هوامش تدور في فلك الأنا، لا يمكن أن ينتج عنه إلا نسج علاقة سلبية معهم, فحينئذ يصير الأغيار غرباء وأجانب وجب الحذر منهم، ماداموا مصدر كل خطر يتهدد الذات (الفردية والجماعية). وبالمقابل فإن الإنفتاح الغيري يدفعني للتآخي مع الغير. وبتعبير آخر إن تواصلي واقتناعي بوجود مشترك إنساني بيني وبين الغير (القريب أو البعيد) يحفزني على بناء علاقة إخاء واحترام متبادل معه. ولننظر في واقعنا حتى يتضح لنا هذا الأمر جيدا. فعلى سبيل المثال إن إنغلاقنا على الذات المغربية (الجماعية ) من منطلق التفوق سيجعلنا ننظر للمهاجرين الأفارقة كغرباء نحملهم مسؤولية كل ما قد يلحق بنا من أثافي (شرور). على خلاف ذلك فإن انفتاحنا يساعدنا على كشف المشترك معهم (الإفريقي والتاريخي والجغرافي...). ولنتذكر هنا المركزية الأوروبية وما أنتجته من حروب استعمارية من موقع التعالي على الشعوب الأخرى "المتخلفة" .
يبدو إذن أن انغلاق الذات - وانفتاحها في ذات الوقت مؤشر على هذه الازداوجية والثنائية التي تسكن كل واحد منا كما يوضح إ.موران، وتبدو الذات هنا كأنا مفكرة متطابقة مع نفسها، وغريبة عنها، ومنفتحة بالقدر الذي تبدو فيه منغلقة، مما يجعلها ذات طابع مركب. ثم إذا كنت أنا هو أنا ( في كل مراحل عمري) فإنني كذلك أحمل - في فكري وثقافتي وتوجهاتي الإيديولوجية...- معي أنا آخر. فإن كنت مطابقا لذاتي، فإني غريب عنها أيضا. فمن منا لم يواجه تلك الفترات التي يتساءل فيها : هل أنا من قام بهذا الفعل حقا؟ أأنا قلت ذلك فعلا؟ وليوضح الفيلسوف هذه الثنائية -التي تبعث على التعجب - أورد مثال الإحساس بالإندهاش والغرابة التي نشعر بها أحيانا حين نواجه أنفسنا في المرآة، وندخل في حوار داخلي (المونولوج) وكأننا نحاور "شخصا آخر" لا ندركه. ويقدم فيلسوفنا تعليلا لهذا الشعور المزدوج، معتبرا أنه ذاته يمكننا من استدماج واستدخال الغير في ذاتنا، كما يحدث في علاقات التعاطف والصداقة والحب. فكيف يمكنني أن أشارك السوريين في مآسيهم وأحزانهم لولا أنني أحمل في ذاتي الكائن الإنساني الآخر؟ ثم أليست الصداقة الخالصة بين شخصين بمثابة روح واحدة في جسدين؟ ويتيبن الأمر بجلاء حين نستحضر قصص الحب حيث يغدو كل طرف وكأنه يحل (الحلول) في الطرف الآخر.
وعلاوة على ذلك فقد اعتبر صاحب النص أن شعور الذات بالإهانة أو الألم أو الإعاقة مشروط بإهمالها. مما يعني أن عدم اعتراف الغير بالأنا ولامبالاته بها يجعلها فريسة الألم ويمتهن كرامتها، بل ويعيقها عن المضي قدما. ولنستحضر في هذا السياق الرسام العالمي فان كوخ الذي كانت حياته دراماتيكية (مأساوية) ويشهد على ذلك إقدامه في لحظة ألم حاد على قطع جزء من أذنه. ولربما كان سبب ذلك (إضافة إلى الألم الجسدي) معاناته المعنوية جراء الإهمال، وهو الذي لم يكن أحد يعير لوحاته التشكيلية أي اهتمام، وكانت تباع بأبخس الأثمنة.
ولتأكيد حاجة الأنا (السيكولوجية) ليعترف الآخرون بها، يستشهد إدغار موران بكل من ج.ج. روسو وتودوروف، ويستحضر كذلك قول الروائي الفرنسي فيكتور هوجو "يكمن الجحيم بأكمله في كلمة واحدة هي العزلة". ودلالة ذلك أن وجود الغير واعترافه بي حاجة جذرية، أي ضرورة لا مندوحة عنها لكل ذات. ويمكن أن نفهم هذه الحاجة بالمعنى السيكولوجي والإجتماعي كذلك (فضلا عن الحاجة البيولوجية للتناسل وإستمرار النوع البشري). فالشعور بالإطمئنان والأمان، والإحساس بالإنتماء والمشاركة...كل ذلك لا يتأتى للذات إلا بوجودها مع الغير وربط صلة الصداقة والحب معه. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن كل واحد منا يستشعر في نفسه الحاجة للإكتمال، إذ يظل ناقصا بدون الغير، فالذات ليست مكتفية بذاتها. (الحاجة مثلا إلى المثاقفة لإغتناء الحضارات ورقيها) و لا شك أن العزلة والوحدة أشد عقاب نفسي ومعنوي (بل ويمكن أن تنتج عنه أمراض نفسية). وكما قال مالبرانش "أكبر عقاب لي أن أعيش وحيدا في الجنة".
وبعد أن استجلينا موقف الفيلسوف من الإشكال الذي طرحناه أعلاه يحق لنا أن نتساءل: أية قيمة فلسفية تتضمنها هذه الدعوى؟ وماهي أوجه قصورها؟
تتجلى أهمية هذه الأطروحة في محاولتها استيعاب أوجه العلاقة مع الغير، وربط ذلك بانغلاق الذات أو انفتاحها. إن إ.موران يقدم تصورا تركيبيا لا يقع في إسار (قيد) النظرة الأحادية للغير(الغرابة /المشابهة - الغريب/الكائن المتآخي) أو الذات ( إنغلاق/ انفتاح- آنا/ آخر). ومثل هذا الموقف لا نعدم حججا له من واقعنا المعيش تؤيده. ولينظر كل واحد منا إلى مساره الشخصي والدراسي والمهني ليدرك أن حضور الغير ضرورة لا ترف، وأن هذا الحضور لا ينخذ شكلا واحدا، بل يتأرجح بين الطابع السلبي والإيجابي بحسب شخصية كل واحد منا (شخصية إنطوائية/ اجتماعية...). ويمكننا أيضا أن نلمس دفاعا - مضمرا - من لدن فيلسوفنا عن أهمية تأسيس العلاقة مع الغير على أسس قيمية وأخلاقية إيجابية، تراعي النقصان الذي يسكن الذات، والذي يبرر الحاجة للتواصل مع الآخر( التواصل الوجداني والمعرفي والثقافي ...).
وعلى الرغم من أهمية الأطروحة – لما أتتينا على ذكره – وقوة بنائها الحجاجي، بالنظر لتنوع حججها وتسلسل أفكارها، وإقرارنا صحبة الفيلسوف بالحاجة إلى الغير فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا للإنغماس في الوجود الإجتماعي وذوبان الذات فيه. إذ ينبغي للذات أن تحافظ دوما على مسافة تفصلها عن الإنصهار في الوجود مع الغير. وبتعابير هايدغرية نقول إن الموجود-هنا حين يوجد على نمط الوجود مع الغير يكون عرضة لفقدان خصوصياته، يفكر ويحلم ويحيا...كما أراد له الآخرون لا كما يريد هو ذاته. ولنتذكر – في هذا السياق – أن الإنفتاح على الثقافات الأخرى لا يعني البتة الإنصهار فيها كما تريد العولمة مثلا في سعيها الحثيث لتسييد ثقافة واحدة، والقضاء على الثقافات الأخرى، وبالمقابل لا ينبغي اتخاذ هذا الأمر مبررا للتقوقع والإنكفاء على الذات.
إن هذا التمركز على الذات هو عينه ما سيسقط فيه الموقف الديكارتي الذي يزعم أن الذات المفكرة قادرة على أن تكتفي بذاتها، وتتبث وجودها من خلال تفكيرها وتأملها في ذاتها (أنا أفكر، إذن أنا موجود). ويظل وجود الأنا في نظر ديكارت بمثابة حقيقية بديهية يمكن إدراكها حدرسيا، فضلا عن أن التفكير سمة ملازمة للأنا دوما (حتى في حالة النوم). لا يسعنا إلا الإعتراف بأصالة هذه الدعوى (خاصة حين نضعها في سياقها التاريخي والسوسيوثقافي) ، التي رامت إثبات استقلالية الذات عن كل سلطة خارجية، وإعادة الإعتبار للإنسان والعقل. ومع ذلك فإن هذا التصور يظل محدودا. فهل يمكن للذات أن تفكر دون أن تستحضر الغير؟ من المؤكد أن الأمر يبدو محالا مادام كل موضوع طرقناه (سياسة- دين – أخلاق – معرفة ...) نجد الآخر حاضرا فيه.
وهي ذاتها النتيجة التي ينتهي إليها ميرلوبونتي، إذ "الذاتية المتعالية هي بين- ذاتية " بتعبيره. أي أن كل محاولة للإنفصال عن الغير تبدو غير ممكنة التحقق مادام الغير حاضرا معنا في تفكيرنا وآمالنا وانشغالاتنا. ففي كل فعلنا يحضر التواصل والحوار مع الغير، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا كان من الممكن أن نتفق مع صاحب النص في ماذهب إليه من حاجة الأنا للإعتراف بها من طرف الغير، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن تحصيل هذا الإعتراف؟ وهل يمكن أن يتم ذلك بشكل سلمي؟
عن هذا السؤال ينبري الفيلسوف الألماني ليجيبنا مؤكدا على ضرورة الغير لثبت الذات وجودها، ولتنتزع الإعتراف بها. إلا أن هذا الأخير لا يمكن أن يكون إلا نتاج صراع بين الذات والغير، ينبغي ألا ينتهي بموت أحد الطرفين أو هما معا، كما يوضح لنا ألكسندر كوجيف. وهو ما يقتضي من الطرفين سلوك نهجين متباينين أثناء الصراع، بما يسمح بظهور وتشكل الواقع البشري والإجتماعي. وبعبارة أخرى تكشف لنا جدلية العبد والسيد أن الوعي بالذات لا يتم إلا بواسطة ومن خلال وعبر الغير. فهو بمثابة المرآة التي تمكننا من رؤية ذواتنا. فكيف يمكنني أن أدرك ذاتي وأخلاقي وعيوبي ومزاياي...حين أهجر العيش مع الآخرين، وأنعزل عنهم؟
يدفعنا الموقف الهيجلي إلى التركيز على ما يجمع الذات بالغير من صراع (بغية "الإستعراف")، وإن كان تاريخ البشرية أشبه بكتاب يضم صفحات كثيرة كتبت بالدماء، اتخذ فيها صراع الذات مع الغير أوجها طبقية، وطائفية، وعرقية، وحضارية...فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من رؤية الوجه الإيجابي لتلك الصلة، متجلية في التعايش بين الأديان والإثنيات ، والتبادل الثقافي كذلك، الذي أسهم في بناء الحضارة الإنسانية. في ذات المنحى يشير أرسطو إلى أهمية الصداقة كفضيلة وقيمة أخلاقية، وكضرورة وحاجة لا مناص منها. ففي كل مراحلنا العمرية (طفولة – شباب...) وحالاتنا النفسية (حزن – فرح...) وأوضاعنا الإجتماعية والإقتصادية (فقر - غنى - بؤس - رخاء...) نظل في حاجة لأصدقاء. وأفضل الصداقات وأدومها ما بني على الخير والمحبة والفضيلة لا ما قام على أسس مادية زائلة لا محالة (صداقة المتعة والمنفعة).
إن التأمل في الصداقة يكشف لنا عن خصوصياتها، ففي ثناياها تضم علاقات الأخوة والتعاطف والحب وتبادل الخير والثقة ...بما يجعلها أرقى المشاعر، على أن تقوم على أساس احترام الإختلافات بين الأصدقاء، لا السعي لمحوها. ويحضرني هنا قول مونتيني- حين سئل عن سر صداقته الوطيدة مع لابويسيه مؤلف "مقال في العبودية المختارة" – حيث قال: "لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا".
جماع القول إن الغير ذلك الأنا الآخر الذي أحتاج إليه لأكمل ذاتي(إ.موران)، وأثبت وجودي (هيغل)، دون أن أذوب في الوجود على نمطه (هايدغر). ولأنني لا أستطيع الإكتفاء بذاتي والتعالي على الأغيار (كما قال ديكارت) فإنني بحاجة للإنفتاح عليهم، ومحاولة التعرف عليهم، في إطار الحوار البناء و التبادل المثمر والتواصل الفعال (ميرلوبونتي) وقبول الإختلاف، مع الوعي بمحدودية كل صراع وآثاره المدمرة على النوع البشري ككل. فهل بإمكان الذات أن تتجاوز عوائق الذاتية واللغة والإختلاف...لتدرك الغير بموضوعية؟
انجاز: اسماعيل فائز
انجاز: اسماعيل فائز
0 التعليقات
إرسال تعليق