المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية بين رهان التغير الاجتماعي وبوادر الفشل
أحـــمـــد صـــديــقي
إذا كان خطاب الملك الذي
ألقاه في 18 ماي 2005 قد أكد أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي نتيجة لقراءة متأنية للوضع الاجتماعي الذي باتت
تشهده البلاد حينها ، من أجل محاربة الفقر وتحسين العيش في صفوف الطبقات الفقيرة
والهشة...، وكذا من أجل استكمال الدور الاجتماعي الشكلي الذي باشرته المؤسسات التي
سبقتها كمؤسسة محمد الخامس للتضامن ، والتي من بين ما هدفت إليه إنجاز برامج
لفائدة أكبر عدد ممكن من الفئات الاجتماعية، وتقديم المساعدات ذات الطابع الاستعجالي،
لإنقاذ ضحايا الفيضانات والكوارث الطبيعية... فإنه وفي مقابل ذلك قد أعلنت الحركات
الاحتجاجية في الريف وجرادة وزاكورة عن فشل هذا النموذج التنموي المغربي وهو الأمر
الذي أعلنت عنه أيضا بعض الخطابات الملكية اللاحقة. صرخة مدوية تؤشر لفشل الترياق
الملكي، ومعضلة اجتماعية جديدة تنضاف لسابقتها التي أعلن عنها تقرير الخمسينية إذن
ماهي الإجراءات التي اتخذتها المبادرة لتحقيق التغير الاجتماعي؟ وما هي بوادر فشل هذا النموذج التنموي المفتوح؟
ü حول أهداف المبادرة وفلسفتها
أولا وقبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أن
الملك كان قد طلب تقريرا حول التنمية في المغرب وهو التقرير الذي سمي بتقرير
الخمسينية وفيه تم تشريح المجالات والمناطق التي تم إسقاطها من قطار التنمية في
العهد السابق منوها باستدراك الأوضاع عن طريق تثمين الامكان البشري[1] انطلاقا من جانبين أساسيين وكبيرين أولهما طبيعة الأوضاع
الاجتماعية المتدهورة الموروثة عن الحماية الفرنسية والمستمرة بفضل السياسات
المغربية المهمشة للإمكانات البشرية على مستوى الصحة والحماية الاجتماعية وعلى
المستوى التعليمي التربوي، وأيضا على المستوى الاجتماعي (الإقصاء واللااستقرار
الاجتماعي، التطرف الديني والإرهاب، النمو الديموغرافي السريع والمواكبة
الاقتصادية الضعيفة).
أما الجانب الثاني فهو السياسات الاجتماعية العاجزة التي تتسم بسياسة الإنزال و الابتعاد عن
نهج الإشراك و الانفتاح و الإدماج، مما يجعل كل البرامج المسطرة تحتها بمثابة
برامج تقليدية و قديمة، محدودة و فاشلة،
تعتمد على سياسة الانعزالية و ضعف التنسيق بين القطاعات الوزارية والحكومية. عموما لقد شكل تقرير "خمسون سنة من التنمية البشرية وآفاق 2025"
في فلسفته و إجرائه جرأة
كبيرة، كان الهدف من ورائها ضبط وإعادة ضبط المسألة التنموية في المغرب لتصبح
تنمية تشمل كل المجالات الاقتصادية والجغرافية وتشمل أيضا كل الفئات الاجتماعية
بغض النظر عن كل التمايزات الطبقية والسوسيومجالية.
فهل المعطيات والاستنتاجات التي جاء بها تقرير الخمسينية كانت مستقلة وموضوعية؟
إن إعلان المؤسسة الملكية عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كان نتاجا
لنوع من الالتفاف على تقرير الخمسينية، سواء على مستوى نتائج التقرير أو على روح
وفلسفة التقرير. ولَمَّا كان التقرير يروم إلى إعادة توجيه السياسات العمومية نحو
ديمقراطية مجالية وتنموية، فقد سعت المبادرة بمختلف برامجها وسياساتها ومؤسساتها
الحكامية إلى ترقيع ما هو كائن وموجود في
أفق تحسينه بعيدا عن السياسات العمومية، على أن يكون المجتمع المدني، غير المؤهل
في مجمله، هو الكفيل بالعمل على هذه السياسة الترقيعية.
هكذا إذن يمكنا أن نقول أنه من البداية، كان هناك نوع من النكوصية في
التعاطي مع الملاحظات العينية والميدانية ومع تقرير الخمسينية، وأيضا مع ملاحظات التقارير
الدولية المهتمة بالتنمية.
ü
مبادرة تطمح إلى تحقيق التغير الاجتماعي ولا تأخذ بعوامل تحقيقه:
يرى غي روشيه
أن التغير الاجتماعي له أربع صفات أساسية
هي [2]:
أولا: التغير الاجتماعي
ظاهرة عامة توجد عند أفراد عديدين وتؤثر في أسلوب حياتهم وفكرهم
ثانيا: التغير الاجتماعي
يصيب البناء الاجتماعي أي انه يؤثر في هيكل النظام الاجتماعي
في الكل أو الجزء، وهو التغير الذي يحدث أثراً عميقا في المجتمع، وهو التغير الذي
يطرأ على المؤسسات الاجتماعية كالأسرة أو على النظم الاجتماعية كالاقتصاد.
ثالثا: يكون التغير
الاجتماعي محددا بالزمن أي أنه يبتدئ من فترة زمنية معينة وينتهي بفترة زمنية معينة،
من اجل مقارنة الحالة الماضية بالحالة الراهنة لمعرفة مدى التغير.
رابعا: أن يتصف التغير
الاجتماعي بالديمومة والاستمرارية وذلك من اجل إدراك التغير والوقوف على أبعاده
لأجل ذلك اعتبر
غي روشيه التغير الاجتماعي هو كل تحول في البناء الاجتماعي يلاحظ في الزمن ولا
يكون مؤقتاً سريع الزوال لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسارها.
هكذا صار
بإمكاننا التمييز أكثر فأكثر بين المبادرة الوطنية في مختلف خطاباتها وإنجازاتها
وبين طموحها في تحقيق التغير الاجتماعي ورجوعا إلى الصفات المميزة للتغير
الاجتماعي والتي حددها غي روشيه لم تؤثر المبادرة في أسلوب حياة المغاربة ولا في
تفكيرهم، وأن مختلف برامجها لم تصب البناء الاجتماعي ولم تؤثر في هيكل النظام الاجتماعي
سواء في الكل أو الجزء، أيضا كل مشاريعها كانت متذبذبة من حيث عنصر الزمن، وحتى إن
أردنا مقارنة الماضي بالراهن سنجد أن الفرق بسيط ومتواضع جدا.
بعد هذا التحديد لصفات التغير الاجتماعي يجب الآن
استحضار أهم عوامل هذا التغير:
*العامل الديموغرافي السكاني : وهنا يقصد
به الارتباط بين عدد السكان ومستوى المعيـشة مما يولد انعكاسات على النواحي
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والارتبـاط بـين حجـم السكان والعمالة والبطالة
ومستوى الأجور والمعيشة واستعمال الآلات بما يؤثر فـي الأفـراد وفي التركيبة
الاجتماعية للمجتمعات البشرية. وأن أهمية العامل الـديموغرافي تـأتي نتيجـة للحركة
السكانية زيادةً أو نقصاناً، وكثافة السكان وتوزيعهم داخل المجتمع وعليه فـأن
التقـدم والتخلف مرهونان بالحركة السكانية ولهذا صار العامل السكاني حاسماً فـي
عمليـة التغير الاجتماعي. وهذا ما ذهب إليه إميل دوركهايم حين قال بأن الزيادة في
عدد السكان تؤدي إلى تقسيم العمل الاجتماعي ومن ثم يكون هناك تقسيم أو انتقال من
التـضامن الآلـي إلـى التـضامن العضوي الذي يرجع إلى العامل السكاني [3] مما يصنع أسرة متغيرة في كثير مـن وظائفهـا وهذا
يحدث نتيجة التغير الحاصل في البناء الاجتماعي. يقول غريغوري
لازاريف أنه عندما نتحدث عن التغير الاجتماعي، "فإننا نحلل المجتمع المدروس
بمقارنته مع حالته الاجتماعية السابقة" ويكمن الاشكال هنا في كيفية تحديد
نقطة انطلاق التحليل ، أي كيف نحدد النمط المرجعي الذي سنقارن معه لمعرفة طبيعة
هاته التحولات وأسبابها فعندما نتحدث عن التنمية كمسار للتغير الاجتماعي فإن
النموذج المرجعي هنا هو المجتمع التقليدي[4] ورجوعا
إلى العامل الديموغرافي فإن المغرب شهد انتقالا ديموغرافيا كبيرا من ستينات القرن
الماضي إلى حدود الألفية الثالثة حيث أصبحت نسبة الشباب تحتل الحيز الأكبر داخل
الهرم السكاني المغربي، وهو الأمر الذي نلاحظ أن الأخذ به كان غائبا في كل
المشاريع التنموية بما فيها برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
* العامل التكنولوجي: أن الاختراعات والابتكارات والاكتشافات العلمية والتقـدم فـي وسـائل الاتصال
والنقل كلها ذات أثر في التغير الاجتماعي، إذ تنعكس على الأساليب الفكرية للنـاس وعلاقاتهم
الاجتماعية، وتغير السلوك البشري[5].
* العامل الأيديولوجي )الفكري(: أن تعدد المذاهب الفكرية في المجتمع
يؤثر في أساليب حيـاة أفراده وفي عملية التغير الاجتماعي فيه، فالأفكار الدينية
والرأسمالية والاشتراكية تـؤثر فـي نشاط الأفراد والجماعات وتشكل نمطاً معيناً من
التفاعلات والعلاقات[6]. فهل تتوفر المبادرة
الوطنية للتنمية البشرية على إيديولوجيا شاملة تتمكن عبرها من تحقيق طفرة نوعية
إلى الأمام.
* العامل الاقتصادي: هو جميع
النواحي المادية التي تحيط بـالمجتمع، والبنـاء الاقتـصادي مسؤول عن التطورات
والأحداث التاريخية وعن توجيه عمليـات التغيـر الاجتمـاعي فـي المجتمع. والدور
الذي يلعبه في التنظـيم الـسياسي والقـانوني والفلـسفي والأخلاقـي فـي المجتمع[7].
* العامل الثقافي: إن أساس أي
تغير أو تطور اجتماعي يعود إلى العامل الثقافي وهذا ما يراه أنصار هذا العامل
فكلما حدث تغير ثقافي في داخل المجتمع سواء أكان هذا التغيـر ماديـاً أم معنوياً
أدى إلى أحداث تغيرات اجتماعية، في العادات والتقاليد والأعراف أو تتعدل أو تختفـي
هذه المفاهيم كلياً. وأن التغيرات التي تحدث في الجانب المادي هي أسرع من الجانب
المعنوي وخلال ذلك يحصل التخلف الثقافي كما أطلق عليه (وليم أوكبرن)، وليس
بالضرورة أن يكون التغير الثقافي نتيجة لعوامل داخلية وإنما يحدث نتيجة لاستعارة
سمة ثقافية أو مركب ثقافي من مجتمع أخر مما يؤدي إلى حـدوث تغير اجتماعي. وهو ما
نجده غائبا على مستوى أجهزة حكامة المبادرة فالعمال والولاة هم من يسهرون على
برامج المبادرة أي أن طبيعة السلطة السياسية المغربية تقليدية في حين أن المبادرة
استراتيجية تتطلب نظاما سياسيا حديثا. إن الحداثة عملية تقدمية وإن التحديث في
نهاية المطاف ليس أمرا لا مناص منه فحسب، بل إنه أيضا أمر مرغوب فيه. إن تكاليف
وآلام فترة الانتقال خصوصا في المراحل المبكرة كبيرة، ولكن إنجاز النظام الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي الحديث جدير بهذا إن الحداثة تعزز على المدى البعيد سعادة
الانسان حضاريا ومعنويا وماديا[8]. إن الثقافة الإدارية المغربية المستمدة من جهة
من الثقافة الإدارية الفرنسية "العتيقة" التي تسعى إلى ضبط المجال ومن
الثقافة التقليدية التي تسعى إلى جعل المجتمع السياسي والمدني تابع للدولة وليس
حرا.
ü
المبادرة
الوطنية للتنمية البشرية ورهان التغير الاجتماعي:
لقد اقتضت طبيعة موضوع مقالنا
أن نقوم بعمل مزدوج، حيث تطلب منا الأمر ضرورة الفصل بين جانب وجود المبادرة
الوطنية للتنمية البشرية نظريا كمخطط استمراري واستراتيجي، اقتصرنا فيه على
الدراسة الوصفية لأهداف المبادرة وفلسفته، وجانب وجودها الميداني الواقعي عن طريق
الاحتكاك بالميدان من أجل جمع المعلومات حول الموضوع، وذلك بالاعتماد على لوائح
المشاريع المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على مستوى ثلاث جماعات قروية وجماعة
حضرية تتواجد بمدينة الريصاني.
إن كل المعطيات المتوصل إليها
من خلال مختلف المشاريع المؤطرة من طرف المبادرة والتي استفادت منها مختلف
الجماعات السالفة الذكر وضعتنا أمام ضرورة الارتباط بالميدان، إما عن طريق استخدام
تقنية الملاحظة أو المقابلة للتقرب أكثر من حقيقة إنجاز هاته المشاريع وتطبيقها
على أرض الواقع، وهذا ما ساعدنا على جمع معلومات ومعطيات متباينة ومختلفة، والتي قنا
بتحليلها واستخلاص استنتاجات حول الموضوع المدروس.
رجوعا إلى لائحة بعض المشاريع المنجزة على مستوى هاته
الجماعات عملت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على وضع برامجها الاستعجالية
وتنفيذها بشراكة مع الجماعات المحلية السالفة الذكر انطلاقا من سنة 2006، رغبة
منها في تدعيم التوازنات الاقتصادية والتقليص من الفوارق الاجتماعية والطبقية، ورغبة في تأهيل الرأسمال البشري. لكن هل الاقتصار على مشاريع ترمي إلى حفر
وصيانة بعض السواقي واقتناء بعض السيارات الخاصة بالنقل المدرسي وحده كفيل برفع
سلم التنمية؟ هل إقتناء شاحنات لنقل الأزبال وبعض الحاويات التابعة لها سيحقق طفرة
نوعية نحو التقدم بساكنة هاته المنطقة؟ ماذا عن الوضع الصحي المتدهور؟ وماذا عن
المياه الصالحة للشرب التي لازالت هاته الجماعات القروية لم تستفد منه إلى الآن؟
إن حصيلة هذه
المشاريع المنجزة لم تعبر عن ما كان منتظرا منها، نتيجة للتباين الواضح بين
البرامج والاعتمادات المرصودة، وكذلك بين عدد المستفيدين، وهذه الحصيلة التي آلت
إليها المبادرة ما هي إلا نتيجة للاختلالات التي تعرفها على مستوى توزيع وتدبير
المبالغ المالية من طرف الفاعلين فيها، إضافة إلى تأخر إنجازات هذه المشاريع نظرا
لتعقد المساطر الخاصة بالانتقاء وتمويل المشاريع التي قد تستغرق وقتا من أجل
صرفها، كما أن غالبية هذه البرامج لا تعكس حاجيات المستفيدين، بحيث لا يتم إشراك
السكان من اجل اختيار المشاريع الملائمة لهم، مما يؤدي إلى تضخم البرامج في منطقة
واحدة دون تحقيق الأهداف المرجوة منها، وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال القيام
ببحوث ميدانية، من أجل تحديد نوعية المشاريع التي تحتاجها الفئة المستهدفة.
فالمناطق التي اقتصرت دراستنا عليها مازالت تفتقر إلى
المستشفيات والطرق وقنوات الصرف الصحي، ومنشآت توصيل الماء الشروب وفق الشروط
الصحية المطلوبة، فمثلا نسبة الأسر المرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب تبلغ فقط
35،40 بالمئة، في حين أن نسبة اأسر المرتبطة بالكهرباء تصل إلى 90،88 في المئة[9]، هذه الأمور لم يكن ممكنا بتاتا أن تقوم بها
جمعيات المجتمع المدني التي كانت تقدم برامج محدودة كمساعدات عينية. فإلى أي حد
يمكننا تعميم نموذج مدينة الريصاني على المغرب؟
إن المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية تعاني من مجموعة من الاختلالات بالمناطق المشار إليها نظرا لأنها وُضعت في
يد المؤسسات السياسية وهو ما أدى إلى غياب مفهوم التشارك الذي نادى به الخطاب
الملكي المؤسس الأمر الذي يحيلنا على سطحية العلاقة القائمة بين المؤسسة الملكية
وبين الممارسات السياسية والاجتماعية، "إن انحباس كل تقدم اجتماعي وسياسي، هو
أكبر دليل على أن الأزمة تتجاوز السطح إلى العمق، والسياسة إلى الثقافة، والأنظمة
إلى المعارضات، والاستراتيجيات إلى الأهداف والمفاهيم. ولا يفسر هذا الانحباس
وفقدان البديل بتفاقم العنف والقمع. فالقمع لم يحطم إرادة شعب في التاريخ ولم
يخفه، بل إنه كثيرا ما يحثه إلى المقاومة، ويدفعه إلى المواجهة، ويشحذ
عزيمته"[10]. إن السبب الرئيسي لاستمرار
هذا الانحباس أو المأزق التاريخي كما يقول البعض، هو غياب الوعي الموضوعي بأبعاد
المشكلة الاجتماعية والتاريخية، وغياب الرؤية الواضحة والتصور السليم والتفسير
المقنع الذي يخلق إرادة الفعل، ويفتح أفق العمل ويبعث في الإنسان الأمل. وبمعنى
آخر، إن استمرار الأزمة هو أكبر دليل على انعدام البديل أو ضعفه. ولا نقصد هنا
بالبديل الجانب السياسي منه، وإنما المشروع الاجتماعي الثقافي والسياسي لهذا
فيمكننا القول بأن المبادرة ظلت وستظل فاقدة لأهدافها البعيدة ولاتساقها الذاتي
كونها استندت إلى العمل السياسي ولعل ركوب مجموعة من الأحزاب السياسية على مشاريع
المبادرة يبرر ما قلناه وهو ما جعلنا نطرح سؤالا عريضا للتفكير هل نحن أمام مبادرة
أم منظمة حكومية تتصارع بداخلها الأحزاب السياسية؟
إن المبادرة الوطنية
للتنمية البشرية تعاني من مجموعة من الخروقات جعلتها تركز على مشاريع ثانوية
وبعيدة عن الإشكاليات التنموية والاجتماعية التي تعاني منها المناطق القروية إن
المبادرة التي نحن بصددها هي مبادرة إقصاء الجمعيات مبادرة الأرقام والمعطيات
المغلوطة مبادرة الإنجازات الوهمية المغشوشة.
رغم كل المشاريع المشار اليها ظلت الجماعات المدروسة معزولة، بشكل ملحوظ، عن مجموع هذه الديناميات سواء تعلق الأمر
بمستوى التنمية الاقتصادية أو بمستوى التنمية البشرية أو بالنظر إلى التحولات
الاجتماعية أمر إن كان يدل عن شيء انما
يدل على عدم فعالية المبادرة بالعالم القروي. وبذلك فإن
الفوارق بين المدن والقرى كانت وما تزال تبدو صارخة وواضحة، وتستدعي أجوبة
اقتصادية واجتماعية. وفي ظل هاته المشاريع تبقى مجموعة من الأسئلة مطروحة:
- لم يستهدف
برنامج محاربة الفقر هاته الجماعات رغم أنها تعتبر من الجماعات الفقيرة فمعدل
الفقر النقدي حسب الإحصاء العام للسكن والسكنى لسنة 2014 يتجاوز 23،05 في المئة ومعدل الهشاشة بلغ 26،17. أي أن معدل الفقر
والهشاشة حسب آخر إحصاء لازال يرتفع، مفارقة واضحة تؤكد التباين الصارخ بين
المدينة والقرية وتوضح أن طريقة الاستهداف الجغرافي للمبادرة لم تكن عادلة ولم تكن
ملائمة لاحتياجات الساكنة.
- ان طبيعة
المشاريع المنجزة بهاته الجماعات تبرز لنا مدى اعتماد المبادرة على المقاربة
التشاركية والاندماجية ومدى مساهمتها في تنمية الرأسمال البشري. الأمر الذي يجعلنا
نقول أنها تعترف بتدني قدرات ساكنة هاته الجماعات.
- من خلال المشاريع المبرمجة بهاته الجماعات
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تبقى ضعيفة التنوع فيما يخص طبيعة المشاريع
وضعيفة الوضوح من حيث نجاعتها الاقتصادية.
- استنادا للمعطيات الميدانية ليس هناك أثر للمبادرة على نمو الدخل بالنسبة
للساكنة ويمكن ارجاع هذا الأداء الشبه منعدم إلى كون المشاريع التي أطلقتها
المبادرة ليست مصممة بطريقة تضمن زيادة في الدخل السنوي للساكنة.
- فيما يتعلق بالبنيات التحتية والخدمات
الأساسية يبدوا أنه ليس للمبادرة وقع بارز على مستواها رغم أنه يشكل أحد أهدافها
الأساسية.
- لم يكن للمبادرة تأثير مقنع في المجالين الصحي والدراسي فقد ظلت
اسهاماتها حبيسة شراء بعض سيارات الإسعاف والنقل المدرسي، وهكذا فان البعدين
الرئيسيين للتنمية (التعليم والصحة) غير متأثرين لحدود اللحظة بهاته المبادرة
ويكفي أن نقول بلغة الأرقام أن نسبة الأمية في إحدى الجماعات المدروسة تصلى إلى
48،80 في المئة في حين أن الوحدات العلاجية الموجودة بمنطقة الريصاني تتوفر على
طبيب واحد في ظل غيابه يحدث شلل تام في المستشفى.
- المبادرة تعتمد على قدرة الجماعات المحلية في تطبيق المشاريع والتزامها
بتأمين تدبير شؤونها في حين أن التنظيم من داخل هاته الجماعات يعرف مجموعة من
الخلافات السياسية الأمر الذي يفرض على المبادرة ضرورة دراسة وفحص نظام حكامتها من
جديد.
إن نسبة كبيرة من سكان
المغرب القروي لايستوعبون لحدود اللحظة لا مفهوم التنمية ولا مؤشراتها الأمر الذي
جعلهم يجهلون حتى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ويجهلون مبادئها وهو أمر جعلنا
نطرح عدة أسئلة أخرى هل هناك أيادي خفية بهاته المناطق المدروسة تهدف إلى تأبيد
القائم وإبقاء الوضع على ما هو عليه؟ وبصيغة أخرى فهل يمكن الحديث عن المبادرة
الوطنية للتنمية البشرية كوسيلة للسيطرة
على المجتمع المدني؟
ü المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبوادر الفشل:
إن المتأمل لحراك الريف وحراك جرادة ثم انتفاضة
العطش بزاكورة إضافة إلى مختلف الانتفاضات والحركات الاحتجاجية الأخرى سيجد أنها
بمثابة عقود إذانة عن فشل هذا الورش التنموي المفتوح باستمرار فشل في إخراج الطبقات
المتواضعة اجتماعيا من الفقر والهشاشة أو
التخفيف من حدته على الأقل وتفعيل نموذج تنموي مغاير يمكن أن يعطي الأمل للمواطنين
ويجعلهم مساهمين علميين وعمليين في عملية التنمية. إذن ماهي نتائج المبادرة على
أرض الواقع؟
إن مختلف المناطق التي تحدث عنها تقرير خمسون سنة
من التنمية وآفاق 2025 والتي نبه من خلالها بالمعضلة الاجتماعية التي يعيشها
المغرب عامة والمجال القروي خاصة هي نفسها المناطق التي أشرنا إليها سلفا والتي
شهدت نوعا من الاحتجاجات والانتفاضات وهي نفسها التي شهدت أيضا أعدادا كبيرة من
المشاريع والمبادرات التنموية في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وطبعا دون أن يكون لها الأثر على حياة المواطنين.
إن أغلب المدن الصغيرة والقرى المغربية تفتقر كل التجهيزات الاجتماعية من
المستشفيات إلى الطرق وقنوات الصرف الصحي، وأحيانا تفتقر لمنشآت توصيل الماء
الشروب وفق الشروط الصحية المطلوبة وأحيانا نجدها منعدمة كما هو الحال في مدينة
زاكورة وبعض المناطق في إقليم تاونات، هذه الأشياء لم يكن ممكنا بتاتا أن تقوم بها
جمعيات المجتمع المدني التي كانت تقدم برامج محدودة كمساعدات عينية نظرا لضعف
التمويلات التي تستفيد منها.
اليوم وبعد مضي أكثر من ثلاثة عشرة سنة على انطلاق
المبادرة... أصبح من الضروري و لزاما على المشرفين عليها
تقديم تقرير مفصل على أهدافها الأولى وعلى نتائجها في أرض الواقع كما هو معهود في
نهاية كل سنة[11]. وهو ما لم تقم به الجهات المشرفة، فقط أعطت
الأرقام حول عدد المشاريع والتي كانت ضعيفة النتائج وأرقاما عن تكلفتها التي عادة
ما تكون مرتفعة دون الحديث عن النتائج وعن مدى التغير الاجتماعي الذي لحق المناطق
المستهدفة من خلالها.
إذا كان رهان المؤسسة الملكية على "إشراك المجتمع المدني في عملية سد
ثغرات التنمية" من خلال تمويل مشاريع في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، يكون هدفها هو مساعدة ذوي الدخل المحدود على الدخول في الدورة
الاقتصادية الليبرالية الرأسمالية؛ فإن هذا الرهان لم يكن مشتركا بين جميع مكونات
الدولة، فوزارة الداخلية كان لها رهان آخر من خلال المبادرة يبتعد كثيرا عن طموح ملك الدولة. ذلك أن رهان وزارة الداخلية كان يميل أكثر نحو ضبط المجتمع المدني والسيطرة
عليه وجعله ينخرط في تصورها للحياة السياسية الوطنية ككل.
لقد شكلت المبادرة وسيلة جديدة في يد وزارة الداخلية ورجوعا إلى المهام
المتعلقة بهاته الوزارة سنجد أنها هي المسؤولة عن قبول المشاريع وتمويلها وتتبعها، من أجل السيطرة على
المجتمع المدني. وعموما لقد كان لوزارة الداخلية من وجهة نظري مسعى من خلال العمال
والولاة إلى تشجيع جمعيات محددة بعينها يقف وراءها أشخاص مصدر ثقة بالنسبة لها،
وعملت على تمويل مشاريع تكون تستطيع استعمالها في الحملات الانتخابية اللاحقة المناسبات
وهو ما صادفناه سابقا في الجماعات المدروسة.
وهكذا، فإن الطموحات المتوسطة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، تم
الالتفاف عليها من أجل السيطرة على المجتمع المدني من جهة، ومن جهة ثانية للتدخل في الانتخابات. ولا يخفى علينا جميعا كمتتبعين لمجريات الانتخابات الدور،
الذي لعبته جمعيات كثيرة في تغليب كفة المرشحين "المرضي عنهم" من لدن
الداخلية.
ختاما كان لزاما علي أن أبدي رأيي في الموضوع وبالتالي، أعتقد أن وزارة الداخلية اليوم -دون أن
ننسى أنها من بين الوزارات الأربع التي تتحكم بها المؤسسة الملكية- هي المسؤولة
الكبرى عن فشل النموذج التنموي المغربي. وهنا، أستحضر رأي بعض أعضاء المجتمع
المدني والمواطنين ممن يطالبون بتفكيك
وزارة الداخلية وسحب اختصاصاتها من أجل تفكيك البنية المخزنية ككل. وعموما كانت
ومازالت وستظل تشكل وزارة الداخلية
بحجمها وبثقافتها عبئا كبيرا على البلاد، ما دامت تحتوي بداخلها على جيش المخزن
الذي ظل عصيا على الدخول في الحداثة السياسية والاجتماعية، فظل وفيا لثقافة
تقليدية حتى وإن استخدم أدوات الحداثة. ورجوعا إلى المبادرة، نقول إنها أسهمت بشكل كبير في السيطرة التدبيرية على
المستوى السياسي بشكل غير مباشر من خلال التحكم المباشر في جزء كبير من جمعيات
المجتمع المدني التي أصبحت تنضوي تحت هاته المبادرة ولا تتحرك إلا وفق تعليمات
أجهزة حكامتها. ولا يمكننا إنكار أن
هناك نجاحا باهرا قد تحقق لكن من منظور
السلطة وليس من منظور الدولة الحديثة القائمة على مبادئ الحرية والكرامة والعدالة
الاجتماعية،فهل لا مازال هناك في مغرب القرن الحادي والعشرين مجتمع مدني، مستقل وبعيد
عن السياسة؟
.
الهوامش:
[1] تقرير المغرب الممكن خمسون سنة من التنمية البشرية وآفاق 2025. ص 13
[2] غي روشيه كتاب التغير الاجتماعي مدخل إلى علم الاجتماع - 1968م
[3] قیس النوري، أفاق التغیر الاجتماعي النظریة
والتنمویة، مطابع التعلیم العالي، بغداد، ،1990 ص 117
[4] امحمد مهدان
السوسيولوجيا القروية بالمغرب قضايا ومقاربات طباعة ونشر سوس أكادير 2017 ص 132
[5] مصطفى الخشاب، علم الاجتماع ومدارسه، الدار القومیة للطباعة، القاھرة، 1966،ص 207
[6] نیقولا تیماشیف، نظریة علم الاجتماع
طبیعتھا وتطورھا، ترجمة محمود عودة وآخرون، القاھرة، دارالمعارف، ص56.
[7] إحسان محمد الحسن، رواد الفكر الاجتماعي،
دار الحكمة للطباعة والنشر، بغداد، 1991، ص133-134.
[8] مجلة عالم
المعرفة العدد 309، من الحداثة إلى العولمة الجزء الأول، تأليف ج. تيمونز روبيرتس
أيمي هايت، ترجمة سمر الشيشكلي
[9] المصدر: الإحصاء
العام للسكن والسكنى.
[10] برهان غليون. إغتيال العقل محنة الثقافة العربية
بين السلفية والتبعية. ص12. الطبعة الرابعة 2006.
[11] المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الانطلاقة والتطور، التنسيقية الوطنية للمبادرة الوطنية
للتنمية البشرية ماي 2018.
0 التعليقات
إرسال تعليق