الاثنين، 30 يناير 2017

مفهوم الواجب

إيمانويل كانط 

مفهوم : الواجب
مدخل :
 يصعب الحديث عن الواجب دون الإشارة إلى الفلسفة الكانطية. فمع كانط لم يعد الواجب مجرد استجابة لإكراهات خارجية (تحقيق منفعة أو متعة أو الإستجابة لضغط المجتمع...)، بل صار قانونا أخلاقيا يسري في النفس الإنسانية بعيدا عن كل ترهيب أو ترغيب.
 يحيل الواجب كما عرفه لالاند "إما على الضرورة، أي على ما ينبغي أن يكون، وإما على المقابل لما هو كائن، أو لما يجب ألا يكون (...) كما يحيل أيضا على الإلزام الأخلاقي المجرد. كما هو الشأن بالنسبة لكانط". وانطلاقا من هذا التعريف يمكن القول بصعوبة الفصل بين الواجب وسمة الإكراه. فهل يعني هذا أنه إكراه وإلزام، أم التزام حر؟ وهل يتأسس الواجب على إكراهات، أم أنه استجابة لنداء العقل والإرادة؟
 وإذا كان الإنسان يتعرف على واجباته انطلاقا من امتلاكه للوعي الأخلاقي – كخاصية "تسمح للعقل البشري أن يصدر أحكاما معيارية عفوية على القيمة الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية " كما يقول لالاند – فإن السؤال الذي يثير نفسه هو: ما علاقة الواجب بالوعي الأخلاقي؟ وما طبيعته؟ أهو فطري وكوني، أم أنه مكتسب ونسبي؟ ثم ما علاقة الواجب بالمجتمع؟ هل يصدر عن الضمير الفردي، أم لا يعدو أن يكون مجرد صدى للمجتمع؟ ألا يمكن للواجب أن يتجاوز الخصوصيات الثقافية ليتخذ طابعا كونيا؟
أولا: الواجب والإكراه :
الطرح الإشكالي :
 هل الواجب إلزام (إكراه)، أم التزام (حر)؟ إلى أي مدى يخضع الواجب لإكراهات خارجية؟ ألا يمكن تأسيسه على الإرادة الحرة والعاقلة؟
الواجب أمر أخلاقي قطعي ( دعوى إمانويل كانط نموذجا)
 يقيم كانط تمييزا بين نوعين من الأوامر الأخلاقية. الأولى شرطية (رهينة شروط ونتائج محددة)، والثانية قطعية مطلقة. ولأن الأولى متغيرة فلا يمكننا أن نؤسس عليها واجبا أخلاقيا كونيا. إن الواجب هو ذاك الأمر الأخلاقي القطعي الصادر عن العقل العملي والقائم على الإرادة الطيبة. لهذا فالواجب لا يرتبط بغايات خارجية، أو نتائج معينة.
يتخذ الواجب الكانطي سمة كونية، ويقوم على  قاعدة التعامل مع الإنسانية كغاية في ذاتها لا مجرد وسيلة. فهل يبدو هذا الموقف واقعيا؟
الواجب إكراه ومحط رغبة (تصور دوركايم نموذجا)
 من منطلق سوسيولوجي يتوجه دوركايم بالنقد إلى الواجب الكانطي باعتباره صوريا ومجردا. إن الواجب كما يتصوره عالم الاجتماع الفرنسي إلزام صادر عن المجتمع (مادام الفرد خاضعا لسلطة المجتمع)، ولكنه أيضا محط رغبة. إذ من الصعب أن نؤدي واجبنا فقط لأنه واجب (كما أراد كانط). فحين نقوم بواجبات مفروضة علينا من طرف المجتمع نتوخى الحصول على رضى المجتمع، وتحقيق نوع من اللذة. وهذا يكشف وجود تداخل بين "الواجب والخير واللذة في كل الحياة الأخلاقية" بتعبير دوركايم.
وللمقارنة بين موقفي كانط  ودوركايم يمكن الإستعانة بالمثال الآتي. فالتبرع بالدم لشخص في حاجة إليه، يبدو واجبا- نابعا من الذات- يتعين الإلتزام به، لكن دون انتظار أية نتائج من ورائه في نظر كانط. بيد أن هذا الواجب عند دوركايم، الذي يفرضه علينا المجتمع، يرمي الفرد عند الخضوع له إلى إنقاذ حياة شخص، الأمر الذي يشعره بنوع من الرضى والسعادة، إذ أسهم في فعل الخير.
خلاصة
 حاصل القول إن الواجب الأخلاقي لا يخلو من إكراه. غير أن هذا الإكراه لا يتعارض مع الحرية عند كانط . وإذا كان الواجب الكانطي يبدو مثاليا، فإن دوركايم جعله أكثر واقعية حين ربطه بالإكراه الاجتماعي والمرغوبية. ولذلك فالمجتمع له دور أساس في السمو بأخلاق الفرد . فهل يعني ذلك أننا لا نستطيع بناء أخلاقنا بذواتنا؟
ثانيا: الوعي الأخلاقي
الطرح الإشكالي :
 إن كان الوعي أو الضمير الأخلاقي هو القدرة التي يملكها الإنسان لإصدار أحكام أخلاقية، وفصل الشر عن الخير. فإن التساؤل الذي يفرض نفسه هو: ماعلاقة الواجب بالوعي الأخلاقي؟ وما أصله؟ أهو فطري، أم مكتسب (نابع من المجتمع)؟ ثم بأي معنى يمكن الحديث عن وعي أخلاقي كوني؟
الوعي الأخلاقي في علاقته بالأنا الأعلى (موقف سيغموند فرويد نموذجا)
 يرفض مؤسس التحليل النفسي اعتبار الضمير الاخلاقي كيانا فطريا داخليا ومستقلا. إنه لا ينفصل عن البنية النفسية للفرد. إذ يشكل إحدى وظائف الأنا الأعلى المتمثلة في مراقبة أفعال ومقاصد الأنا والحكم عليها. يتبلور الضمير الاخلاقي كوظيفة للأنا الأعلى- كجملة من القيم والمعايير الاخلاقية والدينية والقانونية – انطلاقا من التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ طفولته. وتفاديا لمشاعر الإحساس بالذنب أو القلق يبدو الأنا مطالبا بعدم عصيان أوامر الأنا الأعلى.
 وبالنظر لارتباط الوعي الأخلاقي بالمجتمع فإنه يتسم بالنسبية والتغير. فهل يعني ذلك تغييب إرادة الفرد في تحديد الواجب ؟
الضمير الأخلاقي غريزة الهية (أطروحة ج.ج. روسو نموذجا)
 ينطلق الفرنسي روسو من الطبيعة الخيرة للإنسان. ومن ثمة يحاول أن يبين أن الضمير الأخلاقي معطى فطري. إنه بمثابة الأحاسيس الداخلية التي تمكننا من تبين الخير وفصله عن الشر، وهو غريزة الهية، أي ذلك الصوت الفطري الذي يرشدنا نحو طريق الخير. ومن خلال الإنصات له أيضا لا نحتاج إلى عناء في إصدار أحكام أخلاقية معصومة. وهذا الضمير هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان.
بهذا المعنى فالضمير الأخلاقي له طابع كوني (مثال إدانة المجتمعات الإنسانية لانتهاك المحارم مثلا).
تركيب
 وأخيرا إن ما يسمو بنا فوق سائر الكائنات هو وعينا الأخلاقي الذي يمكننا من التمييز بين الخيروالشر. وإذا كان الدفاع عن نسبية القيم الأخلاقية والضمير الأخلاقي من شأنه تكريس التعايش بين بني البشر، فإنه من جهة أخرى قد يستغل كمبرر لتكريس قيم معادية للإنسان. ومن هنا أهمية الإنصات للضمير الفردي. فهل هذا الأخير يمكن فصله عن الضمير الجمعي؟
ثالثا: الواجب والمجتمع
التأطير الإشكالي :
 أي علاقة بين الواجب والمجتمع؟ هل يمكن الإقتصار على الضمير الفردي في تأسيس واجباتنا الاخلاقية ؟ أليس الضمير الجمعي هو مصدر الواجب؟ وأخيرا إلى أي حد يمكن بناء واجب كوني يتضمن في طياته واجبا نسبيا؟
المجتمع أساس الواجب (تصور إ. دوركايم نموذجا)
 ليس للواجب - في نظر دوركايم – إلا مصدر واحد هو المجتمع. فهو الذي يعمل على ترسيخ ما ينبغي القيام به في الوعي الفردي نظرا لسلطة المجتمع على الفرد. ويتحقق ذلك بفعل التربية والتنشئة الاجتماعية (الأسرة - المدرسة ...) . بتعبير أخر إننا نؤدي واجباتنا استجابة لصوت أو صدى المجتمع داخلنا . فليس الوعي الفردي إلا انعكاسا للوعي الجمعي. لكن ألا يترتب عن هذا الإقرار بنسبية الواجب ؟
نحو الواجب الكوني (دعوى هنري برغسون نموذجا )
 لا ينكر برغسون أهمية ودور المجتمع في تعيين الواجبات الأخلاقية، إلا أنه يرى أن الواجب حين يستهدف المجتمع فحسب، فهو بذلك ينتج أخلاقا منغلقة، وتصير مجرد عادات بمرور الوقت، بحيث تكون تلقائية لا تحتاج إلى بذل جهد للقيام بها. غير أن مثل هذه الواجبات المنغلقة قد تكرس الصراعات داخل المجتمعات. إننا حين نؤدي واجباتنا اتجاه المجتمع فقط، قد يصير ما هو لا أخلاقي (مثل القتل والتجسس والكذب...) أخلاقيا (وذلك في حالة الحروب مثلا). ولذلك يدعونا الفيلسوف الفرنسي إلى الالتزام بالواجبات الكونية والأخلاق المفتوحة. أي أنه علينا "واجبات اتجاه من حيث هو إنسان". وبهذا يمكن أن يتحقق السلم والأمن في المجتمعات الإنسانية.
تركيب:
 صفوة القول إن الإنسان فرد داخل المجتمع، لذلك فهذا الأخير مصدر الواجب. غير أن البعد الإنساني يفرض علينا ألا نظل حبيسي الأخلاق المغلقة. إذ ينبغي أن يؤسس للفرد أخلاقا مفتوحة بناء عل ضميره الفردي. لتعم السعادة المجتمع الإنساني ككل. فما السعادة؟

    Faiz Ismail. يتم التشغيل بواسطة Blogger.