الجمعة، 27 يناير 2017

أضواء حول صدى نيتشه في فكر ميشيل فوكو (2)





II. من "جنون" الفيلسوف إلى فيلسوف الجنون:


سنحاول أن نتتبع التقاطعات الممكن إيجادها بين نيتشه وفوكو، ولذلك سنركز على موضوعة الجنون، اعتبارا للأهمية التي اكتستها لدى كلا الفيلسوفين. فكيف يظهر الجنون لديهما؟ وبم يتسم "جنون الفيلسوف" خاصة؟

لقد أسس ديكارت لتلك النظرة الإقصائية والتهميشية للجنون، وذلك حينما أراد أن يحرر ويفصل العقل عن الوهم، ويجنبه الوقوع في الخطأ والشك. كما يؤكد جان لاكروا[13]. فالكوجيطو الديكارتي بربطه بين الوجود والتفكير، يعلي من شأن هذا الأخير، الذي لا يمكن أن يتم إلا بواسطة العقل. هذا الأخير الذي ينظر إلى المجنون على أنه، لا نصيب له منه. وكأن المجنون بذلك شخص خارج "التغطية العقلية". إذ لطالما اعتبر الجنون فكرا أعمى (حسب مالبرانش)، لأنه يختلط بالوهم والتخيل، ولأنه فقدان للقدرة على قيادة الذات، مادام "المِقْوَدُ" (العقل) غائبا.

ومع نيتشه، وقبله شوبنهاور، ستهتز هاته الصورة المرسومة للجنون، على الأقل جنون الفلسوف، فشوبنهاور كما يقول عزيز الحدادي: "عاش بعمق تجربة الجنون ونال من نعيمها ودفئها". فإن كان المجنون هو الشخص الخارج عن الحدود المرسومة من طرف المجتمع، أو التمرد على صورة العقل التي يحدد المجتمع أدق تفاصيلها –فقسمة الجنون/العقل مبدأ إبعادي من صنع المجتمع، كما يؤكد فوكو-، فإن نيتشه بالطبع أول المجانين، ولكن أيضا أكثرهم حكمة وسعادة، إنه "فيلسوف عظيم عاش متعة الحكمة وفتنة الجنون"[14]. وأكثر من ذلك "كان المرض لا بل الجنون حاضرا في نتاج نيتشه"[15].

جنون نيتشه والفلاسفة، هو بمثابة ثورة على عقل المجتمع –العامة، الذي يبغي أن يقيد حريتهم، ويكمم أفواههم، وكأنه يخاطبهم فيقول لهم: إن لم تكونوا مثلنا، فإننا سنتهمكم بالجنون، ونجردكم من العقل والحكمة، ولكن بماذا يمكن أن نتصور مثلا نيتشه وهو يرد عليهم، إنه يصرخ قائلا: "وا أسفاه امنحيني الجنون ذا أيتها القوى الإلاهية. الجنون كي أخلص إلى الإيمان بذاتي (...) أثبتوا لي أنني إليكم! الجنون وحده يبرهن لي عن ذلك"[16]. وهكذا يصير الجنون "غاية للفيلسوف، وليس مجرد قدر يصيبه في كل لحظة. إن نيتشه قد اختار بأناقة شفافة أن يعيش تجربة الجنون"[17].

يعد نيتشه وغيره من "عباقرة الجنون"، ملهمي فوكو في دراسته للجنون. ألم يقل بنفسه: "إن كل أولئك الذين حاولوا (...) تطويق إرادة الحقيقة، ووضعها موضع سؤال ضد الحقيقة، في اللحظة التي كانت فيها الحقيقة تحاول تبرير الممنوع. وتعريف العمق، كل هؤلاء من نيتشه إلى آرتو ، وإلى باطاي ، يجب أن يكونوا بالنسبة لنا علامات سامقة بدون شك على طريق العمل الذي نقوم به كل يوم"[18]. وبالفعل فقد كانوا علاماته المرشدة، ومع اختلاف دراسته للجنون، إلا أنه كان يسير في نفس خطاهم.

 وفي "نظام الخطاب"، يتطرق فوكو للمنظور الإقصائي والتهميشي الذي كان يعامل به المجنون، والذي يتجسد مثلا في عدم قبول شهادته أمام الهيئات التحكيمية (القضاء الآن)، واعتبار كلامه من دون معنى، وفي نفس الوقت كان يصور على أنه الناطق باسم الحقيقة، وبوسعه أن يتنبأ ببعض الأحداث، وبعبارة أخرى، كان المجنون يرى بعينين، فعين ترى فيه ذلك المتلفظ بضجيج من الكلمات، جوفاء من المعنى، والعين الأخرى ترى فيه ذلك المتنبي (المجدوب)، الذي يمكن أن يتلفظ في أي لحظة بحقائق قد تكون غائبة حتى عن أعقل الناس.

وفي كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، يتطرق فوكو بتفصيل لموضوعة الجنون، فيلاحظ الحظوة الثقافية التي اكتسبها الجنون في عصر النهضة. إذ يتحول إلى "شعار قلق عميق" تجاه نظام  الحياة و كيفية ادراكه و تمثله. ويبدو ذلك واضحا في سفينة المجانين التي تجوب الأنهار الأوربية، كتعبير عن الإقصاء و"التطهير الرمزي"، من قبل المجتمع لفئة اعتبرت شاذة، وكأنها كائنات غير إنسانية أو من كوكب آخر.

يبرز فوكو أن هذه النظرة العزلية قائمة على الضرورة الاجتماعية، إذ بتهميش أولئك المنبوذين، يتمكن المجتمع الغربي من الحفاظ على تماسكه ووحدته، وتقوية التضامن الاجتماعي[19] (بالمعنى الدوركايمي). ولذلك تم تجميع "أراذل القوم" –بتعبير فوكو- من متشردين وفقراء ومنحرفين ومجرمين ومجانين، ووضعوا في محاجر كبرى، واستغلوا في أداء بعض الأشغال. أراد المجتمع الغربي إذن أن يرى "صورته الجميلة" –بتعبير هنري ليفي- في المرآة، فلما وجد في هذه الأخيرة بعض الأدران والأوساخ، عمل على تنظيفها، وذلك بإقصاء الفئات التي تمثل الشاذ والنقيض واللاعقل.

وبعد الثورة الفرنسية أدرك الغرب فجأة بأن "المجانين والمجرمون حبسوا بلا تمييز في المحاجر نفسها"[20]. ولذلك تم عزل المجانين في مكان خاص بهم، هو المستشفى العقلي، ومعه ولدت "النظرة الطبية-العلمية" للمجنون، كمختل عقلي وجب علاجه، وضمان حقوقه الإنسانية، لكن فوكو يؤكد مرة أخرى أن ذلك لم يكن بباعث إنساني مشفوع بتقدم علمي، بقدر ما كان استجابة لظروف اقتصادية، وملابسات اجتماعية وسلطوية، بدأ خلالها الغرب يعي أهمية السكان، كأهم عناصر المورد الاقتصادي و الاجتماعي.و بالتالي فمن اللازم القيام بما يضمن استمرارية السكان كذلك (بما فيه طبعا علاج المرضى العقليين). وبالرغم من ذلك فقد شكلت هذه المستشفيات العقلية بجهازها العلمي والطبي، "سيطرة عقلية على الجنون إلى الدرجة التي يغدو معها الجنون قسيما للعقل"[21]، كما يقول فوكو.

لقد تطرقنا إلى بعض معالم الجنون كما تناوله فوكو في "تاريخ الجنون". لنتبين كيف أنه أظهر أن "الجنون لا يوجد إلا في مجتمع وبالنسبة له"[22]. لقد أراد فوكو أن يخرجنا من نظرتنا الضيقة عن الجنون، ليفسح أمامنا آفاقا جديدة، يغدو معها الجنون موضوعا اجتماعيا، ويصير بالتالي جنون الفيلسوف وساما على صدره، قد لا يستأهله إلا أصحاب "الجنون الأعظم"، بتعبير فوكو. ذلك الجنون الذي قد يدفع بالمجتمع إلى أن "ينفذ أحكام الإعدام في حق الفلاسفة الذي يخيفونه بجنونهم الرائع والمدهش الذي يمزق الستار الشفاف الذي يخفي وجه الحقيقة"[23].

فالفيلسوف بجنونه الأعظم يرعب المجتمع، ذلك أن هذا الأخير لا يطيق أن يصغي إلى الحقائق، إذ أن جسده يقشعر منها. ذلك أنه لا يحبذ كل ما يزعجه في سباته الطويل. إذ تفضل العامة أن تسكن في قصور الوهم، وفي صروح الاعتقادات الراسخة، على الرغم من أن الأساس قد يكون هشا وقابلا للانهيار في أية لحظة. وغالبا ما يكون الفيلسوف مصدر خلخلة ذلك البناء الذي يشبه بيت العنكبوت. ولذلك فالمجتمعات المتخلفة (التي تسود فيها الأمية والجهل) يعسر عليها أن تتنفس هواء بنسمات فلسفية. إذ إن هاته النسمات تبدو لها (أي لمجتمعات التخلف) وكأنها ريح عاتية. وبالفعل فهي كذلك لمن اعتاد أن يسكن كهوف الجهل، ولمن كان عقله قالبا فارغا إلا من الدوغمائية والتعصب للرأي. وهو حال مجتمعنا، ويا للأسف!

هكذا أطلعنا فلاسفة الجنون على حقيقة هذا الأخير، وهكذا نستطيع أن نصغي رفقة نيتشه، ساد، آرتو وفوكو...، إلى الجنون "إنه يقول حقيقة عن الإنسان قديمة جدا، وقريبة منه جدا، وصامتة جدا، ومهددة له جدا، حقيقة تحت كل حقيقة"[24].

تعرفنا مع نيتشه وفوكو كيف أن الجنون يثور على النظم الاجتماعية، ويتخطى الأسوار العقلانية، ليثبت أن العقل ليس أنموذجا يحتذى، أو صراطا مستقيما يسلك، وإلا فالهلاك، وأن العقلانية ليست "كاتالوجا" (Catalogue) يحفظ، بقدر ما هي إبداع، وثورة على العتيق، وتجديد في الفكر، وإن كان هذا يوسم من طرف المجتمع بالجنون. فما أجمل هذا الجنون الخلاق، وما أحوجنا إلى مجانين من هذا الطراز في مجتمعنا!

 لكن هل يقتصر التقاء نيتشه بفوكو في "إعادة الاعتبار للجنون" –إن صح التعبير-؟ ألا يمكن أن نجد تقاطعات أخرى بينهما؟


الهوامش :
13.  جان لاكروا، دلالة الجنون في فكر ميشيل فوكو، ص(85-92)، مقتطف من كتاب ميشيل فوكو: نظام الخطاب ، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1984، (ص 88-89) بتصرف.
14.  عزيز الحدادي، للأشياء رائحتها، لقاء الفيلسوف بالرسام، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، ط1، 2007، ص. 74.
15.  جيل دولوز، نيتشه،، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1998، ص. 17
16.  نفسه، ص. 129.
17.  عزيز الحدادي، للأشياء رائحتها، م.س. ص. 76.
18.  ميشيل فوكو، نظام الخطاب، م.س. ص. 16.
19.  إديث كيرزويل، عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو، ترجمة جابر عصفور، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط2، ماي 1986، ص. 213.
20.  أوبيرينوس، ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، ص. 14.
21.  إديث كيرزويل، عصر البنيوية من لفي شتراوس إلى فوكو، م.س. ص. 215.
22.  جان لاكروا، دلالة الجنون في فكر ميشيل فوكو، م.س. ص. 92.
23.  عزيز الحدادي، للأشياء رائحتها، م.س. ص. 78.
24.  جان لاكروا، دلالة الجنون في فكر ميشيل فوكو، م.س. ص. 91.

    Faiz Ismail. يتم التشغيل بواسطة Blogger.