للإستئناس فقط
مفهومي الحق والعدالة
مدخل :
بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 19488 وما تلاه من إعلانات وبروتوكولات- ترمي كلها إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان- تنامى الخطاب الحقوقي في العالم. ولأن التفكير الفلسفي يعلمنا معالجة القضايا بحس نقدي وتساؤلي، فإنه من الضروري مساءلة هذه الحقوق والإستفهام عن أسسها لإدراك ماهية الحق. فما دلالة مفهوم الحق؟وما هو الأساس الذي ينبني عليه ؟
إن الحق من زاوية معرفية - منطقية يشير إلى الحقيقة واليقين...كما يتخذ معنى وجوديا يحيل إلى نصيب الذات (نصيب الفرد من خيرات الوطن...)، والقدرة على الإستمتاع بشيء ما و الإستفادة منه (الحق في التعليم والصحة...). وفي السياق القانوني يرادف ما تسمح به القوانين الوضعية، ومختلف التشريعات التي ينبغي الإلتزام بها. ومن الناحية المعيارية يدل على مختلف القواعد العقلية التي توجه تصرفات الإنسان في علاقته بذاته وبالغير.
يأخذ مفهوم الحق، إذن، دلالات متباينة بالنظر إلى حضوره داخل حقول معرفية عدة. وتجدر الإشارة إلى صعوبة الحديث عن مفهوم الحق دون استحضار مفهوم العدالة. هذا الأخيرة التي ظلت مطلبا ناضلت وتناضل من أجله الشعوب. بيد أن تحديد ماهية العدالة يثير ثلة من الإشكالات حول كيفية تحقيقها داخل المجتمع، وفي علاقتها بمفهومي المساواة والإنصاف. فهل العدالة تقوم على المساواة بين الأفراد داخل المجتمع ؟ أليست المساواة جورا، وبالتالي فالعدالة لا تتأتى إلا حين عمل قاعدة الإنصاف؟
أولا: الحق الطبيعي والحق الوضعي
التأطير الإشكالي
إن كان الحق الوضعي هو مجموع الحقوق المنصوصة في القوانين المكتوبة والعادات الثابتة " وكان "الحق الطبيعي هو "مجموع الحقوق اللازمة عن طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان"(جلال الدين سعيد ص 148) فإن التساؤل الذي يفرض نفسه يتعلق بالأساس الذي ينبغي أن ينبني عليه الحق. فهل أساس الحق طبيعي ، أم أنه وضعي؟ ثم هل الحق يمكن أن يقوم على أسس كونية تتوافق والطبيعة البشرية؟ أليس الحق خاضعا للاعتبارات السوسيوثقافية النسبية؟
حق القوة (الموقف السوفسطائي: ل "كاليكليس" نموذجا)
ينطلق كاليكليس من رصد تفاوت القدرات الجسدية والعقلية للبشر، والإقرار بأن الطبيعة والفطرة هي التي أوجدت هذا التفاضل والتمايز. ولذلك يصرح بأن "أمارة العدل أن يسود الأقوى من هو أقل قوة منه'. وعلى هذا الأساس فمن العدل أن يتم تكريس هذا الوضع. ومن هذا المنظور أيضا يبدو أن الحق ينبغي أن يتأسس على القوة ويتم فرضه من خلالها. لكن هل يمكن تجنب العواقب الوخيمة لمثل هذه الدعوى؟
الحق الطبيعي أساس الحق الوضعي ( أطروحة توماس هوبس نموذجا )
يحدد هوبس الحق الطبيعي بكونه تلك الحرية التامة التي يتمتع بها الإنسان (في حالة الطبيعة) للقيام بكل ما يراه ملائما وضروريا للحفاظ على وجوده. وطالما تمتع المرء بهذا الحق فإن النتيجة التي ستترتب عن ذلك هي الدخول في حرب الكل ضد الكل. وبموجب القانون الطبيعي الذي يلزمنا بأن نحافظ على بقائنا كان من الضروري تأسيس سلطة تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع، وتضمن لهم حقوقهم الوضعية. هذه التي تنص عليها مجموع القوانين المتعاقد عليها.
يبدو إذن أن الحق الوضعي يستمد أساسه من الحق الطبيعي، ولكنه يعمل على تقييده. فهل يمكن أن يحظى الحق بطابع كوني؟
نسبية الحق الوضعي ( دعوى هانز كيلسن نموذجا)
يرفض هانز كيلسن – من منظور وضعاني – وجود معايير أو قيم كونية مشتركة بين المجتمعات البشرية. فالحق بهذا المعنى يقووم على أساس وضعي، يتغير من مجتمع إلى آخر. فإذا كانت المجتمعات الليبرالية تعترف للفرد بحقه في التملك (ضمانا لحرية الملكية)، فإن المجتمعات ذات التنظيم الشيوعي لا تقر للفرد ذلك الحق (إقرارا للأمن الاجتماعي). ولأن العدالة، وكل الأحكام الأخلاقية، تظل نسبية، فكل مجتمع يعتبر نفسه مجتمعا عادلا.
خلاصة تركيبية:
ختاما يبدو أن تحديد ماهية الحق يطرح إشكالا يتعلق بتأصيله. فإن كان من الضروري الإعتراف بحقوق طبيعية للإنسان صونا لكرامته، فإنه بالمقابل لا يمكن أن نغض الطرف عن الاختلافات الثقافية بين المجتمعات، مما يجعل بعض الحقوق وضعية نسبية.
ثانيا: الحق والعدالة
الإشكال الأساس:
هل تنبني العدالة على القانون (الحق الوضعي)؟ ألا يمكن أن تكون القوانين ظالمة؟ ألا ينبغي البحث عن معيار كوني لتأسيس العدالة؟ ثم هل العدالة تتحقق داخل الدولة، أم خارجها (المجتمع الشيوعي)؟
العدالة وضرورة احترام القانون (تصور أرسطو نموذجا)
يبين أرسطو وجود تضاد بين العدل والظلم. ذلك أن الأول يقوم على موافقة القانون والامتثال له، وكذا مراعاة المساواة، خلافا للثاني الذي يتنافى والقانون، و يخرق مبدأ المساواة. غير أن القوانين التي تسن ينبغي أن تكون في خدمة الصالح العام، وأن تسعى لتحقيق سعادة المدينة ككل حتى تكون عادلة. ويضيف الفيلسوف أن العدالة فضيلة أخلاقية يرنو كل فرد لتحقيقها.
إن العدالة لا تتحقق إلا في ظل احترام القانون، وداخل المدينة-الدولة، كما أبرز الفيلسوف اليوناني. فهل القانون يكون دوما عادلا؟
نحو معيار كوني للعدالة (موقف الفيلسوف الروماني شيشرون نموذجا)
يفند شيشرون الأطروحة القائلة باقتران العدالة بالقانون، مبرزا أن القوانين ليست دوما عادلة (مثال قوانين حكم الطغاة في أثينا ). وعلاوة على ذلك فربط العدالة بالمنفعة من شأنه أن يؤدي لتلاشي الأولى. وعلى هذا الأساس ينبغي تأسيس العدالة على أسس كونية تتقاسمها كل المجتمعات الانسانية، بحيث لا يصير الحق والعدالة خاضعان لظروف الزمان والمكان. ولهذا يشدد الفيلسوف على ضرورة أن توافق القوانين مقتضيات العقل السليم، وأن تراعي الطبيعة الخيرة للإنسان، لتكريس المحبة والاحترام بين الأفراد.
يتبدى، إذن، أن القانون والدولة لا يضمنان دائما العدالة. فهذه الأخيرة رهينة بمدى مطابقتها لمبادئ العقل السليم والطبيعة الخيرة.
تركيب:
خلاصة القول إن العدالة لا تنفصل عن الحق وتطبيق التشريعات والقوانين. لكن القوانين قد تكون ظالمة، ما لم تتأسس على مقتضيات العقل السليم، والفطرة الإنسانية الخيرة، بغية إسعاد الإنسانية. فهل يمكن تحقيق هذا الأمر في عالم تتحكم فيه الشركات العابرة للقارات في مصائر المجتمعات وقوانينها؟
ثالثا: العدالة بين المساواة والإنصاف
الإشكال المحوري:
كيف يمكن تحقيق العدالة داخل المجتمعات؟ هل يتأتى ذلك بتطبيق المساواة في توزيع الحقوق والواجبات؟ ألا ينبغي مراعاة الاختلافات والفروقات بين الأفراد واعتماد قاعدة الإنصاف؟ ثم ألا يمكن القول إن عدالة منصفة لا تراعي أهمية المساواة تظل ناقصة؟
المساواة الجائرة (أطروحة ماكس شيلر نموذجا )
ينتقد الفيلسوف الألماني التصور الأخلاقي الحديث الذي يدعو إلى المساواة المطلقة (الأخلاقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية) بين الناس، إذ يعتبرها جورا. ويستند نقد شيلر على ضرورة الاعتراف بوجود اختلافات وتفاوتات فطرية بين مؤهلات وقدرات وكفاءات الأفراد، فكيف يمكن أن نساوي بين أفراد غير متساوين ؟
يرى ماكس شيلر أيضا أن الدعوة إلى المساواة التامة مبطنة بالحقد والكراهية اتجاه الأشخاص المتفوقين (من طرف أؤلئك الذين يوجدون في حالة ضعف)، كما تخفي وراءها رغبة في خفض منزلة كل متفوق.
تقترن العدالة إذن بإعمال مبدأ الإنصاف، الأمر الذي يسمح ببروز قيم التفوق والتنافس الإيجابي داخل المجتمع. فهل الإنصاف فعلا يجعل المجتمع عادلا، أم يوسع الهوة الموجودة بين الطبقات؟
مبادئ العدالة (دعوى جون راولس نموذجا)
يحاول الفيلسوف الأمريكي الإجابة عن سؤال ما المجتمع العادل؟ وللإجابة عن هذا الإشكال وبناء نظريته حول العدالة سينطلق راولس مما يدعوه بفرضية "حالة المساواة الأصلية" بين البشر. حيث كل الشركاء المطالبين باختيار مبادئ العدالة متساوون في جهلهم التام بوضعهم الطبقي ومكانتهم الاجتماعية وميولاتهم النفسية. فإن اختار الشركاء المساواة قد تكون نتائجها سلبية عليهم، والأمر نفسه ينطبق على الإنصاف.
أمام هذا الوضع يؤكد راولس أن المبادئ الأكثر إقناعا في تأسيس العدالة، ينبغي أن تنبني على قاعدتي: المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية (كالحق في التعليم والصحة...)، بيد أن هذه القاعدة لا ينبغي أن تحول دون مكافآة الأكثر تميزا. هكذا يتم استحضار مبدأ اللامساواة (الإنصاف) في الحصول على امتيازات اقتصادية (امتلاك الثروة) واجتماعية (السلطة). ولا تكتمل هذه العدالة إلا بمراعاة أوضاع الفئات الأكثر هشاشة (المرضى والعجزة...)، من خلال تعويضهم، وتحسين ظروف عيشهم (دولة الرفاهية ) .
على سبيل الختم:
وبناء على ما سلف بوسعنا القول إن العدالة تظل فضيلة أخلاقية، ومطلبا للمجتمعات، ويرتهن تحقيقها بالمساواة بين المواطنين من حيث الحقوق والواجبات المفروضة، دون إغفال الإنصاف على أساس الكفاءة والإستحقاق. غير أن هذا الأخير لا ينبغي أن يصير مبررا لإيجاد وتكريس التفاوتات الطبقية الصارخة.
0 التعليقات
إرسال تعليق