الاثنين، 30 يناير 2017

مفهوم العنف



مفهوم العنف
مدخل اشكالي:
 لا ينحصر العنف في شكل مادي واحد (العنف الجسدي - الجنسي - الاقتصادي...) بقدر ما يتعداه ليشمل كذلك بعدا معنويا ورمزيا (العنف النفسي والقانوني). وهو الأمر الذي يشكف الطبيعة المعقدة للعنف، وصعوبة حصره في مظهر واحد. لقد صار العنف فعلا يخترق مجالات عدة (الأسرة - المدرسة – الملاعب الرياضية - المجتمع - الإعلام - الممارسة السياسية- العلاقات الدولية...). لهذا ينبغي عدم التطبيع مع العنف، واعتباره مشاهد مألوفة، بل إن الأمر يستلزم منا لحظات تأمل للتفكير في ماهيته(أصله ومسبباته وتمظهراته ونتائجه...).
 يحيل العنف - بداية – في معناه الفلسفي إلى التعسف أو الشطط في استعمال القوة واستخدامها بشكل غير مشروع. كما يدل على كل فعل من شأنه إلحاق الأذى بالذات أو بالغير سواء أكان فردا أم جماعة، وسواء أكان ماديا (محسوسا) أو رمزيا.
 إن المتأمل في التاريخ الإنساني سيجده حافلا بصفحات من العنف ( الإستعمار - الحروب الأهلية والطائفية، وحروب الإبادة...والقائمة طويلة)، ولم يتمكن الإنسان من القضاء عليه حتى داخل أرقى أشكال التنظيم الإجتماعي التي تم تأسيسها (الدولة الحديثة). فهل يمكن أن نعزو ذلك إلى كون العنف يضرب بجذوره في الطبيعة (أي أنه سلوك غريزي) الإنسانية ؟ أليس العنف وليد جملة من المسببات الموضوعية(أي أنه سلوك مكتسب)؟ وماهي الأشكال التي يتبدى بها العنف؟ ثم ما دوره في التاريخ؟ أهو دور سلبي، أم إيجابي؟ وأخيرا أيمكننا التمييز بين عنف مشروع ( يمكن قبوله والمصادقة على استعماله)، وعنف غير مشروع (يستوجب الإدانة)؟
أولا: أشكال العنف وأصله
التأطير الإشكالي
 ما طبيعة العنف؟ أهو سلوك غريزي في الإنسان، أم أنه وليد شروط موضوعية (تاريخية-سياسية-اقتصادية-سوسيوثقافية...الخ)؟ وكيف يتمظهر العنف؟هل ينحصر في بعده المادي (الفيزيائي)، أم يشمل- أيضا- أبعادا رمزية أكثر فعالية؟
علاقة العنف بالإعلام والتكنولوجيا ( تصورY.Michaud نموذجا)
 يستحضر الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو مختلف أشكال العنف التي لا تنحصر فيما هو مادي (حروب التحرير – الحروب الأهلية – الإبادات الجماعية- معسكرات الإعتقال – الإجرام – الإرهاب...واللائحة طويلة) بقدر ما تشمل كذلك ماهو معنوي أيضا (التمييز العنصري – عدم التسامح – الإضطهاد...). إلا أن الفيلسوف ركز اهتمامه على العنف الجسدي، مبرزا ارتباطه بالتقدم التكنولوجي وبوسائل الإعلام.
 إن ما يميز العنف في عصرنا هذا هو هذا الإستغلال المكثف للتطور التكنولوجي في جعل العنف أكثر تدميرا، وأكثر خطورة ( أسلحة الدمار الشامل مثلا). بل إن هذا التطور التكنولوجي يجعل الشخص يمارس العنف عن بعد، ودون أن يشعر-ربما- بتأنيب الضمير، مادام لا يرى ضحاياه مباشرة(كارثة هيروشيما وناكازاكي نموذجا). وعلاوة على ذلك فالعنف صار تجارة مربحة غير مفصولة عن المصالح الإقتصادية والسياسية ( التجارة الدولية للأسلحة ). ويستحضر الفيلسوف استثمار وسائل الإعلام لظاهرة العنف، ونشره بشكل موسع (أفلام "الأكشن"، ألعاب الحروب الإلكترونية ...). 
وقد سمح استغلال هذا التقدم التقني والعلمي ( أسلحة الدمار الشامل) بمضاعفة فعالية العنف، واستغلاله في فرض السيطرة.
يتخذ العنف،إذن، مظاهر عدة أهمها العنف الجسدي، الذي لا ينفصل عن التكنولوجيا والإعلام. فهل بالفعل يعتبر هذا العنف المادي أكثر خطورة؟
العنف الرمزي (دعوى P.Bourdieu نموذجا )
بورديو: "العنف الرمزي ، هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم".
اهتم بيير بورديو بمقاربة العنف الرمزي موضحا تأثيره وفعاليته الكبيرة مقارنة بأشكال العنف البوليسي والسياسي (القمع الفيزيائي). ويعزو خطورته تلك إلى كونه غير مرئي، وغير محسوس. فهو عنف لطيف وعذب، ويتم بتواطؤ الفاعلين الاجتماعيين الذين يمارس ضدهم. إنه عف لا يستهدف الجسد الإنساني، ولا يمارس بآليات مادية، بقدر ما يتوجه نحو الفكر والوجدان الإنساني. إنه عنف يتبدى بأشكال رمزية أساسا، ويمارس في حقول وعلى مستويات عدة: اقتصادية واجتماعية وإيديولوجية وتربوية...فهو أكثر اختراقا للمجتمع، ويتغذى على المسلمات والأفكار والمقولات النمطية التي يتم إعادة إنتاجها داخل الحقل الإجتماعي باستمرار، ولهذا لا يتم إدراكه كعنف. فتجد المعنف (الضحية ) متواطئا مع المعنف (الجلاد).
ولنستحضر هنا دور المدرسة (كما كشف بورديو) في إعادة إنتاج التفاوت الطبقي، وتكريس الهيمنة الثقافية لطبقة معينة. ولنتذكر أيضا ترديد المرأة في مجتمعاتنا لمقولات تشكل عنفا رمزيا ضدها ( الأمثال الشعبية التي تحط من قيمة المرأة مثلا). فهل تعدد صور العنف يدل على طابعه الغريزي في الإنسان؟
العنف بين الطبيعة والثقافة:
 استأثر البحث في أصول العنف وطبيعته باهتمام الفلاسفة والباحثين داخل حقل العلوم الإنسانية. وفي هذا السياق دافعت بعض التصورات عن الطابع الغريزي للعنف، مادام الإنسان لا يخرج عن المملكة الحيوانية، وما دامت طبيعة الإنسان شريرة (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان بتعبير الفيلسوف هوبس). وما يؤيد هذه الدعوى هو كون الحضارة الإنسانية (بمختلف إنتاجاتها) لم تتمكن من القضاء على هذه الظاهرة. ومقابل ذلك يؤكد آخرون ارتباط العنف بشروط مادية واقتصادية أنتجت صراعا طبقيا، وعنفا على مر التاريخ (كارل ماركس).
خلاصة تركيبية
 ختاما يبدو أن إدراك ماهية العنف يقتضي استحضار الدوافع الغريزية العدوانية التي تغذيه، والشروط الموضوعية التي تفجره ليتخذ أشكالا عدة. إذ لا يقتصر على ماهو جسدي فيزيائي، لكنه يشمل أيضا أبعادا رمزية ومعنوية فعالة. فأي دور للعنف داخل التاريخ ؟
ثانيا: العنف في التاريخ
الطرح الإشكالي
 كيف يحضر العنف داخل التاريخ؟ وإلى أي حد يمكن النظر إليه كمحرك للتاريخ؟ أليس العنف حدثا عابرا في التاريخ؟ ثم هل يتولد العنف كنتيجة لشروط موضوعية يمكن التغلب عليه، أم أنه نتاج الطبيعة الإنسانية العدوانية(وبالتالي من الصعب استئصاله)؟
الصراع الطبقي محرك التاريخ ( أطروحة k.Marx نموذجا)
ماركس :"لم يكن تاريخ أي مجتمع، إلى يومنا هذا، إلا تاريخ الصراع بين الطبقات".
بهذه العبارة الواردة في البيان الشيوعي يؤكد كارل ماركس أن الصراع الطبقي محرك التاريخ، باعتباره العامل الأساس في انتقال المجتمعات من نمط إنتاج لآخر، ومن تشكيلة اجتماعية لأخرى. ولذلك فقراءة التاريخ تتطلب استحضار مفهوم الصراع الطبقي، الذي يتخذ أشكالا اقتصادية و سياسية وإيديولوجية. وإذا كان هذا الصراع يضرب بجذوره في التاريخ الإنساني (منذ ظهور المجتمع العبودي)، فإن ما يميز المجتمع الحديث (الرأسمالي) هو تبسيط الصراع، وحصره في طبقيتين متعارضتين كليا: البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، و البروليتاريا التي تملك قوة العمل.
وبناء عليه نستخلص أن العنف وليد شروط موضوعية (انقسام المجتمع إلى طبقات) ، وأن دوره أساس في تطور التاريخ (مثال الثورات...).
العنف والحق (موقف S.Freud نموذجا)
فرويد: "الإنسان ذئب للإنسان، من يجرؤ، إزاء كل مستخلصات الحياة والتاريخ، أن يكذب هذا المثل؟".
 يعتبر فرويد أن الطبيعة الإنسانية تتسم بالعدوانية والوحشية، إذ العنف يظل  متأصلا في الإنسان (كما أكد توماس هوبس قبل ذلك).وما يدعم هذا القول هو عجز الحضارة الإنسانية عن القضاء على هذه العدوانية. وقد أبرز مؤسس التحليل النفسي أيضا تطور أشكال العنف من اعتماد القوة العضلية إلى الإستناد على التفوق العقلي (إنتاج الأسلحة مثلا).
 لقد سعى الإنسان إلى الإرتقاء على طبيعته الحيوانية (العدوانية)، ولم يتأتى ذلك إلا من خلال اتحاد الجماعة التي صارت تنظر إلى قوة الفرد الواحد كعنف في حين أنها تعتبر القوة التي تستعملها ضد الفرد تطبيقا للحق والقانون (عنف مشروع) .
هكذا يتبين أن العنف فطري في الإنسان، وقد أسهم في  تأسيس الحق والقانون، باعتبارهما إحدى ركائز بناء الحضارة الإنسانية.
تركيب عام
 وعطفا على ما سلف ذكره نقول إن تأمل التاريخ الإنساني يبرز الحضور القوي للعنف. إذ ارتبطت التحولات الاجتماعية وبناء الحضارة الإنسانية بممارسة العنف، فقد كان سببا في صنع التاريخ، وبروز مفاهيم الحق والقانون والمؤسسات، ويشكل تهديدا لها أيضا. فهل يمكن إضفاء المشروعية على ممارسته؟
ثالثا: العنف والمشروعية
التأطير الإشكالي
 هل يمكن التمييز بين عنف مشروع وآخر غير مشروع؟ وإن كان الأمر كذلك فهل يستمد العنف مشروعيته من كونه آلية لإقرار الحق والعدالة، واحتكار الدولة الحديثة لممارسته؟ وبالمقابل ألا يؤدي العنف إلى انتهاك كرامة الإنسان، ومن ثم ينبغي إدانته في جميع الحالات؟
العنف المادي المشروع ( تصور M.Weber نموذجا)
إن العلاقة بين الدولة والعنف جد حميمية كما يبين السوسيولوجي ماكس فيبر، فالدولة تعتمده كآلية لفرض سيطرتها وهيمنتها. وإذا كانت كل التجمعات السياسية السابقة على الدولة استخدمت العنف أيضا، فإن ما يسم الدولة المعاصرة (القائمة على الشرعية والتعاقد) هو مطالبتها بضرورة احتكار العنف المادي المشروع داخل رقعة جغرافية محددة. وبعبارة أوضح لم يعد مسموحا لأي فرد أو جماعة داخل الدولة المعاصرة بممارسة العنف الجسدي إلا بتفويض منها، وإلا فإن هذا العنف الممارس ينظر له كاستعمال للقوة بشكل غير مشروع (الأمر الذي يستوجب العقاب). وما يعزز مطالبة الدولة باحتكار هذا الحق في استعمال العنف الفيزيائي المشروع هو سعيها لاستتباب الأمن، وتجنيب المجتمع الفوضى.
 من هنا أمكننا التمييز بين عنف مشروع (أي عنف الدولة الحديثة) وعنف غير مشروع (أي عنف الأفراد والجماعات). فهل هذا التمييز يبدو مقنعا؟ أليس العنف عنفا مهما كان مصدره؟
مواجهة العنف باللاعنف (دعوى M.Gandhi نموذجا)
غاندي:"لكي يصبج اللاعنف قوة حقيقية فإن عليه أن يبدأ بالروح[...] إن العنف هو دوما عنف، والعنف رذيلة".
يرفض غاندي العنف بشكل جذري العنف، ويرى أن مواجهته لا تكون إلا من خلال "التسلح" باللاعنف. فما هي الحجج التي تتأسس عليها هذه الأطروحة؟
 إن العنف - دائما – ينبع من رغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، من خلال الفعل أو الكلام أو الفكر، ولذلك فهو ينطوي على نية سيئة، الأمر الذي يستوجب منا إدانته ورفضه دوما. إن العنف يظل رذيلة وشرا، وهو قانون النوع الحيواني. وكل محاولة لمواجهة العنف بالعنف ستظل أسيرة حلقة مفرغة من العنف المدمر. فكيف يمكن التصدي للعنف؟
 يدعونا غاندي إلى مواجهة العنف باللاعنف، باعتباره إرادة طيبة إزاء كل الكائنات الحية. ويقوم اللاعنف على المقاومة الروحية، التي تنبع من قناعة راسخة بضرورة إدانة العنف، والسعي الدؤوب لتعميم الحب والصداقة في العالم بأسره. وإذا كان العنف مدمرا فإن اللاعنف يبني التعاون والمحبة والثقة بين الناس، وهو قانون النوع الحيواني.
إن هذه القناعة هي التي جعلت الزعيم الهندي يقود مقاومة سلمية (العصيان المدني) ضد المستعمر البريطاني لانتزاع الإستقلال لبلاده.
بهذا المعنى،يتضح أن العنف يظل سلوكا مدانا وغير مشروع بغض النظر عن مصدره وغاياته.
على سبيل الختم
 إن الانتشار المهول للعنف يدفعنا إلى مساءلة مشروعية ممارسته، بالنظر لآثاره الوخيمة على الإنسان. ولأن وجودنا مدين للطبيعة، فإن ما نشاهده من تدمير واستنزاف لمواردها، وتعريض التنوع البيولوجي للخطر، يجعلنا أمام ضرورة مراجعة تعريفنا للعنف. أفلا يعتبر التخريب الأعمى للطبيعة عنفا؟ 

ملحوظة: انظر(ي) المحور الثالث من مفهوم الدولة.

    Faiz Ismail. يتم التشغيل بواسطة Blogger.