"أنا ببساطة نيتشوي أحاول بقدر الإمكان أن أرى بخصوص عدد من النقاط – بمساعدة نصوص نيتشه- ولكن مع ذلك مع أطروحات مضادة لنيتشه (وإن كانت مع ذلك نيتشوية) ماذا يمكن أن نعمل في هذا المجال أو ذاك. لا أبحث عن أي شيء آخر، ولكني أبحث عن هذا بحق" (ميشيل فوكو)
تقديم
قد لا يختلف اثنان حول قيمة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وأهميته داخل المسرح الفلسفي ككل. ومكانته الكبيرة تلك، يستمدها من كونه فيلسوفا أبدع مفاهيمه: بتعبير دولوزي؛ ولأنه أيضا فكر بشكل مختلف، بتعبير فوكوي، سواء من حيث الموضوعات والإشكالات التي تناولها، أو من حيث الطريقة التي عالج بها تلك المواضيع.
بدأ فوكو مسيرته الفلسفية، بكتابه الشهير "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، الذي قام فيه لأول مرة بتسليط الضوء على موضوع، طالما اعتبر هامشيا، ليردفه بعد ذلك بمؤلفات أخرى مثل: "مولد العيادة"، و"الكلمات والأشياء"، و"المراقبة والعقاب"، و"تاريخ الجنسانية" بأجزائه الثلاثة... انكب في هذه الأعمال على بلورة حفريات للمعرفة، تأخذ على عاتقها التأريخ للفكر والعلوم، من منطلق أشكلة ظهورها ونشوئها.
وإذ نقوم بعرض بعض الخطوط العريضة للمشروع الفوكوي، في الورقات الآتية (ونحن واعون باستحالة رصد كل الفكر الفوكوي الشاسع في هذا البحث)، فلكي نستجلي حضور نيتشه في هذا الفكر. فكيف يمكن الحديث عن تأثير نيتشوي في فكر فوكو؟ وإلى أي حد يمكن القول بحضور نيتشوي داخل البيت (الفكري طبعا) الفوكوي؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تقاطعات بينهما؟
I من الجينالوجيا إلى الأركيولوجيا
لقد شن نيتشه حربا ضروسا ضد المفاهيم والمقولات الميتافيزيقية، التي رسختها بعض الفلسفات، من قبيل: العمق والجوهر والثبات والغائية والأصل...إلخ. فقد اكتشف أن هاته المفاهيم ما هي إلا اختراعات إنسانية محضة، ليس لها من شفيع في مستوى ما هو ميتافيزيقي، إذ لا وجود له في نظر نيتشه، ولا في مستوى ما هو واقعي، إذ يكشف العكس. ورغم ذلك فإن هاته المقولات ظلت بمثابة "أمثولات مناقبية" أو تماثيل مقدسة تعبد. ذلك أن الإنسان وجد فيها ملاذه الآمن، وعونه الدائم في صراعه مع الحياة. إنها تو ورثت وكأنها "عقائد راسخة لدرجة شكلت معها العمق المشترك للنوع البشري"[1]. ولذلك وجه نيتشه صوبها مطرقته التي لا ترحم. ليجد أن العمق الذي نتحدث عنه ما هو إلا سطح متسربل بلباس العمق. إنه يقول: "فإذا كان هناك قناع فلا شيء من ورائه. إنه سطح لا يخفي شيئا سوى ذاته".
وفي مقالة لفوكو بعنوان "نيتشه، فرويد وماركس"، يتطرق فيها إلى دور هؤلاء الثلاثة في "التغيير من طبيعة الدلالة". ويركز على أهمية نيتشه في كونه كشف بأن نظرتنا إلى الأشياء (قيم، فكر، لغة...)، هي إضفاء للدلالة عليها. دلالة ليست ماهية لها، أي ليست كامنة فيها كجوهر، بل هي إنتاجنا. إذ كما يقول فوكو: "لا يوجد بالنسبة لنيتشه مدلول أصلي"[2]. ولذلك فالقيم والكلمات هي تجسيد لصراع القوى والتأويلات، التي تتغي الهيمنة على الدلالة، ورفعها إلى مستوى الحقيقي. ولهذا يرى فوكو أن ميزة التفسير الجديد هو انعدام الركون إلى تفسير واحد و دلالة مطلقة، أكثر من ذلك، إن هذا التفسير يؤكد أنه لا وجود لشيء يستدعي التفسير ، لا لشيء إلا لأن "كل شيء إنما هو في العمق تفسير"[3]. وفي هذا ضرب لمبدأ الدلالة الجوهرية، أو التفسير الأصلي.
وقد كانت وسيلة نيتشه للوصول إلى خلخلة المفاهيم الميتافيزيقية، استعمال "الجينيالوجيا" أو "النسابة"، التي تبحث عن أصل القيم، لتضعه موضع سؤال ولتحدد قيمته، على أن نفهم الأصل هنا فهما جديدا، لا يجعل منه مصدرا ساميا أو ماورائيا[4]. بل على العكس من ذلك شيئا يضرب بجذوره في الواقع، بكل ما يحمله هذا الأخير من صراعات وتناقضات.
يرى فوكو، في مقالة بعنوان "نيتشه: الجينيالوجيا والتاريخ"، أنه يمكن تحديد الجينيالوجيا كبحث متواصل عن البدايات، وليس الأصل، بكل ما تتسم به من شتات في تفاصيلها، وسخافة في هوامشها، وقبح في مظاهرها. فبينما ترمي الميتافيزيقا إلى الكشف عن الأصل الواحد والجوهري، وإبراز اختراق الماهيات للأعراض، والوحدة للأجزاء، تقوم الجينيالوجيا على عكس ذلك، بالبحث عن المصدر الذي "يربك ما ندركه ثابتا، ويجزئ ما نراه موحدا، ويجعلنا ندرك المطابق لذاته غير متجانس"[5].
إنها (أي الجينيالوجيا) إذن، عمل مضاد للميتافيزيقا، يروم خلخلتها، وتكسير صنميتها، والوقوف على ما تحاول إخفاءه، من قبيل: الهوامش، والتفاصيل، القوى والصراعات، الانقطاع والتجزؤ، التعدد والتغير... وليؤدي الطبيب الجينيالوجي –بتعبير فوكو- هاته المهمة، فلا مندوحة له من الاستعانة بالتاريخ، شرط ألا يتم فهمه كما يفعل المؤرخون، أي كتسجيل ورصد للأحداث أو المؤسسات أو الأفكار... أو كما تتصوره فلسفة التاريخ، التي ترى فيه سيرورة غائية، يحكمها عقل، أو "وعي تاريخي" –بتعبير فوكو- أو كما تريد الميتافيزيقا أن تظهره لنا، أي كانبثاق عن الأصل، يشكل ماهية الماضي والحاضر، وربما المستقبل، باختصار كمظاهر وأعراض لوحدة متصلة.
على العكس من ذلك فالتاريخ الجينيالوجي، أو "التاريخ الفعلي"، كما يسميه فوكو، "يعلمنا الاستخفاف بالحفاوة التي يحظى بها الأصل"[6]. يهدف التاريخ الجينيالوجي –حسب فوكو- إلى الإفلات من زمام الاتصال ليكشف الانفصال الذي يخترق الواقع، ومن الحقيقة ليسلط الضوء على الجسد والغريزة المستبعدين من مسرح الحقيقة، وليظهر الحرب والهيمنة بدل السلم والحرية. ذلك أنه يؤمن بالتأويل مبدأ، وبكشف الأقنعة وسيلة. إنه "تاريخ متمرد". يطلعنا على سر من الأهمية بما كان. ألا وهو أن "لعبة التاريخ الكبرى تتمثل فيمن يفوز بالقواعد ويستأثر بها"[7]. لأن هذا الفوز سيتيح لصاحبه أن يهيمن ويسود، باسم "التنظيم" و"العقلنة" و"المعرفة". وحسب فوكو فللحس التاريخي استعمالات ثلاث، تصب في نفس المنحى ألا وهو معارضة التاريخ الميتافيزيقي أو الأفلاطوني.
يتمثل الاستعمال الأول في السخرية ممن الواقع، ومن "الهويات الجوفاء"، تأكيدا لحضور الهامش و ما هو مقصى. والاستعمال الثاني "تفكيك". إنه "التقويض الدائم لهوياتنا"[8]. إبرازا للقطائع والانفصالات والتصدعات التي تخترقنا. ليكمل الاستعمال الثالث، ما جاء به هذين التوظيفين: من خلال "نقد الذات العارفة". بل والتخلص منها. توضيحا لعدم نزاهة إرادة المعرفة، ولكون شياطين الغريزة والهيمنة تستبد بها. إن التاريخ الفعلي يريد أن يوقظنا من سباتنا الطويل. وأن يجرنا لرؤية حقائق غير تلك التي تعودنا على سماعها باستلطاف وبهجة.
هكذا، إذن، يفهم فوكو الجينيالوجيا، وهكذا استلهم مبادئها وآلياتها، في أعماله ومؤلفاته، كما يؤكد ذلك بنفسه. إذ يقول: "هناك ثلاثة ميادين ممكنة للنسابات: أولها أنطولوجيا تاريخية لذواتنا في علاقاتها بالحقيقة، تمكننا من تأسيس أنفسنا كذوات معرفية. وثانيها أنطولوجيا تاريخية لذواتنا في علاقاتنا بحقل من حقول السلطة، تتأسس فيه كذوات قيد الفعل في الآخرين. وخيرا أنطولوجيا تاريخية لعلاقاتنا بالأخلاق، تمكننا من تأسيس أنفسنا كفاعلين أخلاقيين"[9]. ويؤكد أن هاته المحاور تجد تحققها ككل في "تاريخ الجنون". وقد انكب على دراسة محور الحقيقة في "مولد العيادة" و"أركيولوجيا المعرفة". بينما تعرض لمحور السلطة في "المراقبة والعقاب". وأخيرا فقد تطرق في "الحياة الجنسية" لمحور الأخلاق[10].
يتصور فوكو، إذن، الجينيالوجيا كدراسات أو متابعات تاريخية، تروم بالأساس الكشف عن الملابسات، التي تحيط بثلاثة حقول (ميادين) أساسية، في المجتمعات الغربية، هي: الحقيقة والسلطة والأخلاق، التي تنتظم في شبكة معقدة من الممارسات الخطابية (الخطاب بمعناه الشامل أي كفكر وعلم وثقافة عامة، سواء أكان ذلك فرديا أم اجتماعيا) وغير الخطابية. لذلك يمكن الحديث عن أواصر "قرابة فكرية" –إن صح التعبير- بين الجينيالوجيا النيتشوية والأركيولوجيا الفوكوية. ويتجلى ذلك في الأهمية التي يوليانها معا للتاريخ، ولكن على أساس فهم جديد له، إذ تسعى الجينيالوجيا إلى إيضاح لعبة القوى وصراع التأويلات التي تخترقه. وفي نفس المسار تسير الأركيولوجيا (الحفريات الأثرية)، بإقامة تاريخ للفكر والمعارف والفلسفة والأدب،" يعمل على إبراز تعدد الفصائل وتقصي جميع بوادر الانفصال"[11]، بالاعتماد على الوثائق وتحويلها إلى أثريات. ففي نظر فوكو أن "التاريخ اليوم يميل إلى الحفريات، ويسعى نحو الوصف الباطني للأثريات"[12]. بعبارة أخرى إن التاريخ الحفري هو بحث داخلي في الوثائق –الأثريات، يتخلص من "السذاجة التاريخية"، ليتحلى بروح "المساءلة والتشكيك".
وتتقاطع الجينيالوجيا مع الأركيولوجيا أيضا، في التخلي عن المفهومات الميتافيزيقية، والمنظورات الأفلاطونية، التي تمجد العمق والغاية والأصل، لتحل محلها النظرة الريبية، ومقولات الانفصال والتصدع والهيمنة. إلا أن اختلاف نيتشه عن فوكو، ربما يكمن في كون الأول يعمل، من خلال جينيالوجياه، على توجيه أصابع الاتهام إلى ما يسميهم بالعبيد أو القوى الارتكاسية العدمية. في حين يقوم فوكو، بأركيولوجياه، على كشف علاقات الهيمنة، ومظاهر الانفصال في التاريخ، دون الجنوح نحو التقييم اتجاه فئات أو طبقات معينة.
يحضر نيتشه لدى فوكو، من خلال جينيالوجياه، وتصوره الجديد والفريد للتاريخ، أي كبؤرة توتر، تضم بين ثناياها، عدوات وهيمنات خلاقة للدلالة والقواعد والنظم.
الهوامش :
1. نيتشه، العلم والجذل، ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي لدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، (2001)، ص. 108.
2. فريدريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغرقي، تعريب د. سهيل القش، تقديم، ميشيل فوكو، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط.3، 2005، بيروت، لبنان، ص. 13.
3. نفسه، ص. 12.
4. فريدريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة وتقديم، محمد الناجي، أفريقا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص.
5. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي/عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1988، ص. 53.
6. نفسه، ص. 51.
7. نفسه، ص. 57.
8. نفسه، ص. 64.
9. حوار فوكو مع هوبير دريفوس، وبول رابيناور "بصدد نسابة الأخلاق"، ص-ص. 77-102، مجلة بيت الحكمة، عدد1، سنة 1، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 1أبريل 1986، ط.3 ص. 87.
10. نفسه، ص. 87.
11. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، م. س. ص. 70.
12. نفسه، ص. 71.
1. نيتشه، العلم والجذل، ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي لدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، (2001)، ص. 108.
2. فريدريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغرقي، تعريب د. سهيل القش، تقديم، ميشيل فوكو، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط.3، 2005، بيروت، لبنان، ص. 13.
3. نفسه، ص. 12.
4. فريدريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة وتقديم، محمد الناجي، أفريقا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص.
5. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي/عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1988، ص. 53.
6. نفسه، ص. 51.
7. نفسه، ص. 57.
8. نفسه، ص. 64.
9. حوار فوكو مع هوبير دريفوس، وبول رابيناور "بصدد نسابة الأخلاق"، ص-ص. 77-102، مجلة بيت الحكمة، عدد1، سنة 1، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 1أبريل 1986، ط.3 ص. 87.
10. نفسه، ص. 87.
11. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، م. س. ص. 70.
12. نفسه، ص. 71.