الاثنين، 30 يناير 2017

مفهوم الدولة

  

مفهوم الدولة
 مدخل اشكالي
 تمثل الدولة ذلك الإطار الذي تمارس داخله السياسة. ويشير مفهوم الدولة إلى "السلطة السياسية ومجموع الهياكل والمؤسسات (وزارات – ولايات – بلديات – شرطة – سجون – محاكم....) التي تمارس هذه السلطة " (جلال الدين سعيد، معجم الشواهد والمصطلحات الفلسفية، ص 175). وتتحدد الدولة أيضا باعتبارها ذلك التنظيم السياسي لجماعة ما على أرض محددة بواسطة مجموعة من المؤسسات والأجهزة العسكرية والقانونية والاقتصادية والإدارية المالكة للسلطة، والتي تهدف لحماية القانون وتأمين النظام. وتجدر الإشارة إلى اختلاف مفهوم الدولة عن مفهوم الأمة، إذ أن هذه الأخيرة هي جماعة من الناس تتقاسم خصائص ثقافية وتاريخية ولغوية معينة (الأمة الإسلامية مثلا(.
يرتبط تحديد الدولة إذن بمكونات: الشعب (الأمة) والإقليم (المكان الجغرافي المحدد) والسلطة (القدرة على التأثير والسيطرة وممارسة الحكم.. .(.
 إن الإنطلاق من تعريف الدولة المذكور أعلاه، واستحضار الواقع السياسي سيجعل المرء يقف على عدة تناقضات تفرض عليه إعادة النظر في طبيعة الدولة. فإن كانت وظيفتها هي حفظ الأمن وإقرار النظام فكيف يمكن تفسير الصراعات الطبقية التي تعيشها المجتمعات؟ ولماذا لم تستطع الدولة القضاء على العنف داخل المجتمع (الجريمة – العنف في الملاعب- العنف بالوسط المدرسي...)؟ وقبل ذلك ما أصل الدولة ؟ وكيف نشأت ؟ وماهي الأسس التي تستند عليها مشروعية الدولة في ممارستها للسلطة؟ أهي أسس دينية (نظرية التفويض الالهي)، أم تعاقدية (نظرية العقد الاجتماعي) ، أم قائمة على الغلبة والقهر؟ هل تمارس وتفرض الدولة سلطتها بالحق والقانون، أم أنها في حاجة إلى توظيف القوة والعنف أيضا؟ وهل هناك مايميز عنف الدولة مقارنة بعنف الأفراد والجماعات ؟...الخ.

أولا: مشروعية الدولة وغاياتها
التأطير الإشكالي
 يقتضي النظر في طبيعة الدولة مساءلة نشاتها ومقاربة المرتكزات التي تستمد منها مشروعيتها (قبول ورضوخ الشعب لسلطة الدولة )، والغايات التي تطمح لها. فهل تقوم مشروعية الدولة على أساس ديني مقدس، أم على أساس تعاقدي إرادي، أم أنها تقوم على القهر والقوة؟ ثم لم وجدت الدولة؟ هل تأسست الدولة لضمان الأمن والسلم والحريات للمواطنين؟ وبالمقابل أليست الدولة جهازا طبقيا غايته ممارسة الهيمنة لصالح طبقة معينة؟ 

الأساس التعاقدي للدولة (دعوى T.Hobbes نموذجا(.
هوبس'' سمي اتحاد الكثرة في كيان واحد دولة...وهي التي ندين لها بما نحن فيه من سلام وأمن''.
دافع هوبس عن أطروحة مؤداها أن نشأة الدولة جاءت نتيجة تعاقد اجتماعي بهدف ضمان الأمن والسلم. فماهي منطلقات وحجج هذا الطرح؟
 يتأسس هذا الموقف على مقدمات أهمها فرضية حالة الطبيعة باعتبارها حالة "حرب مزرية" أو "حرب الكل ضد الكل"، حيث ينعدم الأمن والسلم، وهي نتيجة لا مناص منها بالنظر إلى اعتبارات عدة اهمها : الطبيعة الإنسانية الشريرة ("الإنسان ذئب لأخيه الإنسان " بتعبير هوبس). إن حالة الطبيعة هي حالة يتمتع فيها الإنسان بحرية مطلقة، ويروم السيطرة على الآخرين. ونظرا لغياب السلطة القادرة على تنظيم العلاقات بين الأفراد، فإن هذا الأمر يترتب عنه غياب الامن ودخول الكل في صراع مع الكل. من هنا كان من الضروري التفكير في حل للخروج من هذه الحالة. وليتحقق ذلك يتعين على كل فرد أن يتنازل عن سلطته وحريته المطلقة لصالح حاكم أو مجلس (يمثل حكم الأغلبية) يتمتع بسلطة مقبولة من طرف الجميع
 لا يمكن إنكار القيمة الفلسفية لهذه الأطروحة التي أسهمت في بناء الفكر السياسي الحديث، ومهدت الطريق لترسيخ مفاهيم من قبيل : الديمقراطية وإرادة الشعب وفكرة الدستور والمواطنة...ضدا على نظرية التفويض الإلهي ( التي تعتبر أن السلطة مستمدة من الأساس الديني المقدس، والتي تم استغلالها من طرف حكام لشرعنة الإستبداد). ورغم ذلك فإنها لا تخلو من أوجه قصور تتمثل أساسا في ارتكازها على حالة الطبيعة كفرضية لا كحالة تاريخية مثبتة فعليا. ضف إلى ذلك السلطة المطلقة التي يمنحها هوبس للحاكم، والتي تؤدي – لا محالة – إلى ديكتاتوية النظام السياسي. هذا دون أن ننسى تشكيك البعض في حياد الدولة. إن هذه الملاحظات النقدية تدعونا للإنفتاح على تصور آخر لنشأة الدولة. فما هي معالم هذا التصور المغاير؟

الدولة نتاج الصراع الطبقي ( تصور F.Engles نموذجا(                        
يقول انجلز'' بما أن الدولة تولدت عن الحاجة إلى فرملة الصراعات[...]فإنها،في الغالب الأعم، دولة الطبقة الأقوى''.
منطلقا من المنظور المادي التاريخي حاول فريدريك انجلز في مؤلفه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " البحث في جذور نشأة الدولة والشروط التاريخية التي رافقت هذه النشأة. إذ يبرز الفيلسوف الانجليزي أن الدولة لم تكن موجودة في البدء، وأن مجتمعات عديدة تعيش بدون دولة. فهذا الأخيرة لم تظهر إلا مع بروز الصراع الطبقي- على "مسرح التاريخ"- الذي جاء نتيجة انقسام المجتمع إلى طبقات، وذلك بعد ظهور الملكية الخاصة. لقد تولدت الحاجة إلى الدولة بغية التخفيف(فرملة) من حدة الصراعات والتعارضات الطبقية. بيد أن الدولة ما لبثت أن استحالت (تحولت) إلى جهاز وأداة في خدمة الطبقة الأقوى اقتصاديا، وبواسطتها تسود كذلك سياسيا. ولأن ظهور الدولة اقترن بالصراع بين الطبقات فإن زوال هذا الأخير ( بعد تحقق المجتمع الشيوعي والغاء الملكية الخاصة) سيؤدي إلى اضمحلال الدولة تدريجيا. إذ الشرط التاريخي الذي أنتجها (الصراع الطبقي ) لم يعد موجودا.
 إذا كان هذا الموقف يحظى بأهمية لكونه يكشف واقع الدولة (الرأسمالية خاصة)؛ التي لا تخلو من استغلال الطبقة العاملة، وخدمة مصالح البورجوازية؛ فإن القول بزوال الدولة قد يغفل اهمية الدولة في تدبير المجتمع، وتجنيبه ويلات الصراعات الداخلية.
على سبيل الختم
 ختاما يتضح وجود تباين في أسس المشروعية التي تستند إليها الدولة لتمارس سلطتها، وهذا الاختلاف هو ما يميز دولة عن أخرى من حيث طبيعة نظامها السياسي ومدى ديمقراطيتها، وتحقيقها لغايات نبيلة (ضمان الحقوق والحريات والعدالة...) وإن كان هذا لا ينبغي أن يحجب عنا غياب الحياد التام للدولة اتجاه طبقات المجتمع، فهل يظل وجود الدولة ضروريا؟ 
ثانيا - طبيعة السلطة السياسية
الطرح الإشكالي
 ماطبيعة السلطة السياسية؟ أهي ديمقراطية، أم استبدادية؟ وهل ترتكز على الحق والقانون، أم أنها تستند إلى القوة والعنف؟ ثم أيمكن حصر السلطة في مؤسسات وأجهزة الدولة فحسب؟ ألا تخترق السلطة الجسم الإجتماعي ككل؟ بتعبير آخر هل تبدو السلطة متعالية على مجال ممارستها، أم أنها محايثة (متضمنة) له؟
القوة والقانون لفرض السلطة ( أطروحة N.Machiavelli نموذجا(.
 مكيافيلي''هناك طريقتان للصراع، إما بواسطة القوانين أو بواسطة القوة''.
 يعتبر مكيافيلي واحدا من مؤسسي الفلسفة السياسية الحديثة التي راهنت على نقد النظرية الثيوقراطية (نظرية الحق الإلهي) في الحكم. وقد أسس الفيلسوف الإيطالي لفكر سياسي واقعي بعيدا عن الشعارات الأخلاقية المثالية،، مستندا في ذلك إلى الواقع التاريخي الذي يكشف أن الوصول إلى سدة الحكم والحفاظ على السلطة لا يكون إلا من نصيب الأقوى والأكثر مكرا. كما ينطلق مؤلف" الأمير" من النظر إلى الطبيعة الإنسانية كطبيعة مركبة مما هو حيواني وإنساني في آن واحد. لذلك فالأمير ملزم - إن أراد حماية عرشه – باتباع طريق القانون (مجموعة من القواعد التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع) والقوة كذلك. وعليه أن يتحلى بصفات الأسد (القوة والشدة) والثعلب (المكر والخداع) لفرض سلطته وهيبته. فإلى أي حد يبدو هذا التصور مقنعا؟ 
الجهاز القمعي والأجهزة الايديولوجية للدولة ( موقف L.Althusser نموذجا(.
التوسير:''ماهي الأجهزة الايديولوجية للدولة؟ إنها لا تختلط بالجهاز القمعي للدولة'' .
ينطلق ألتوسير من إعادة قراءة ( تأويل ) النظرية الماركسية حول الدولة. فإذا كانت هذه الأخيرة قد حصرت سلطة الدولة في الجهاز القمعي (الحكومة- الإدارة – السجن – الجيش – المحاكم....) الذي يمارس قمعا وعنفا ماديا ضد الطبقة المهيمن عليها، فإن الفيلسوف الفرنسي يوجه نظرنا نحو مجموعة من الأجهزة الأخرى التي تهدف إلى تكريس السيطرة الايديولوجية للطبقة المسيطرة ويدعوها ب "الأجهزة الايديولوجية" من قبيل : الجهاز الإعلامي والمدرسي والديني والعائلي والنقابي...الخ.
 وإذا كان الجهاز القمعي موحدا لأنه يوظف أساسا القمع الفيزيائي و ينتمي إلى المجال العمومي (لأن مؤسساته ملك الدولة )، فإن "الأجهزة الايديولوجية " تبدو متعددة وتنتمي إلى المجال الخاص.
 لا تنحصر سلطة الدولة إذن في الجهاز القمعي (المادي) بقدر ما تشملها إلى الأجهزة الايديولوجية. وهو الأمر الذي لم تنتبه إليه النظرية الماركسية. فهل السلطة محصورة في مؤسسات الدولة؟
السلطة محايثة للجسم الإجتماعي : (أطروحة M.Foucault نموذجا(.
فوكو'' السلطة حاضرة في كل مكان[...] لأنها تتولد ، كل لحظة، عند كل نقطة، أو بالأولى، في علاقة نقطة بأخرى''.
يقدم فوكو طرحا معاصرا للسلطة يتجاوز الطرح الليبرالي (الذي يحدد السلطة من منظور قانوني ودستوري) والماركسي (الذي يرى السلطة من زاوية الهيمنة والصراع الطبقي) ولا يرفضهما تماما. تتأسس مقاربة فوكو لمفهوم السلطة على النظر إليها كاستراتيجية لأنها تعمل على المدى الطويل وهي حاضرة في كل مكان(الأسرة –المدرسة – الإعلام...)، وليست في ملك أحد.إن السلطة أيضا محايثة (متضمنة وغير متعالية) للجسم الاجتماعي ككل. وتتسم بإجرائيتها، إذ تقوم على مجموعة من الإجراءات الواضحة والخفية في آن واحد. لذلك يدعونا الفيلسوف الفرنسي إلى التركيز على السلطة في مفعولاتها الهامشية، أو ما يدعوه ب "ميكروفيزيائية السلطة". (لوائح الحضور والغياب في أماكن العمل – الهندسة المعمارية للمؤسسات(....
خلاصة تركيبية
 بالجملة إن السلطة السياسية للدولة لا تنحصر في تطبيق القانون، بقدر ما تشمل آليات أخرى كالقمع والعنف الرمزي. وإذا كانت السلطة ضرورية لتنظيم المجتمع وتحقيق استقراره فإن ذلك مشروط بالحد من شطط استعمالها، ومحاولة الحد منها بإعمال مبدأ فصل السلط، وتقوية دور السلطة المضادة )الصحافة، والمجتمع المدني...(.  
ثالثا : الدولة بين الحق والقانون :
التأطير الإشكالي
 كيف تفرض الدولة سلطتها وسيطرتها على المحكومين؟ هل يتأتى لها ذلك باعتماد الحق والقانون فقط، أم باستخدام القوة والعنف أيضا؟ ثم كيف السبيل لتقنين وعقلنة العنف داخل الدولة والحد منه؟ أي ماهي المبادئ والشروط التي ينبغي أن تضبط عنف الدولة؟
احتكار العنف المادي المشروع من طرف الدولة ( تصور M.Weberنموذجا(.
فيبر : '' إن ما يميز عصرنا هذا هو أنه لا يسمح لأية جماعة بشرية أو لأي من الأفراد بحق استعمال العنف[المادي] إلا عندما تسمح به الدولة [المعاصرة]. ''
تتحدد السياسية عند "ماكس فيبر" باعتبارها تدبيرا للدولة، ويقر فيبر -على غرار تروتسكي- بأن تعريف الدولة لا يتأتى بالوقوف عند وظائفها ومهامها فحسب، وإنما يتطلب الأمر إبراز الآلية الأساسية التي ترتكز عليها في فرض سلطتها. ويقصد بها آلية العنف الفيزيائي. وإذا كان كل التجمعات تنبني على أساس سيطرة المهيمنين على المهيمن عليهم، فإن ما يشكل الخاصية المميزة للدولة الحديثة (أي القائمة على أساس السلطة الشرعية التعاقدية) هي مطالبتها بضرورة "احتكار الحق في ممارسة العنف المادي المشروع" داخل رقعة جغرافية معينة. بتعبير أوضح إن الدولة الحديثة ترى أن أي عنف يصدر عن الأفراد والجماعات بدون إذن منها بمثابة سلوك عدواني يفتقد للمشروعية، ويستوجب العقاب. فوحدها تملك هذا الحق في ممارسة العنف المادي الذي ينظر إليه كعنف مشروع، وذلك بغية الفوضى التي قد تنجم عن عدم احتكارها هذا الحق . فماهي الآليات الكفيلة بتجنيب المجتمع انتهاك الدولة لحقوق الفرد؟
دولة الحق والقانون ( دعوى J.Russ نموذجا(.
تدافع جاكلين روس عن دولة الحق باعتبارها واقعا معيشا في المجتمعات المتقدمة، وليست مجرد مثال أو صيغة قانونية مجردة. وتبرز أن دولة الحق بناء تاريخي مستمر، أو سيرورة تاريخية (تتطلب استحضار جملة من الشروط الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والفكرية).وليست معطى ناجزا ومكتملا. وإذا تساءلنا عن ماهية دولة الحق، فالفيلسوفة الفرنسية تجيب بالقول "إنها دولة فيها حق وفيها قانون يخضعان معا [إلى مبدأ احترام الشخص] "، أي أنها دولة تضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وتصون كرامة المواطن. إن معالم دولة الحق تتأسس على الحق والقانون (كنتاج لتعاقد اجتماعي...) وفصل السلط. وهذه الآلية الأخيرة هي التي تضمن استقلال السلط الثلاث (السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، ومراقبة بعضها للبعض، لتجنب الإستبداد، وحماية لحقوق المواطنين.
 يبدو،إذن، أن دولة الحق تفرض سلطتها بواسطة القانون أساسا. وإذا كان هذا لايعني خلوها من استعمال القوة، إلا استعمالها يظل مشروطا بالقانون، وبصون كرامة المواطن.
تركيب
 عطفا على ما ورد ذكره يتبين أن الدولة لا تستطيع فرض سلطتها، وممارسة وظائفها من دون اللجوء إلى العنف المادي، بيد أن هذا العنف ينبغي تقنينه واستعماله فقط عند الضرورة، مع ضمان احترام كرامة المواطن. وتحقيق ذلك رهين بتأسيس دولة الحق حيث يتم إقرار الحق وتطبيق القانون، وفصل السلط (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ليراقب بعضها بعضا. فهل حاجة الدولة إلى راجعة إلى تجذره في الطبيعة الإنسانية ؟


    Faiz Ismail. يتم التشغيل بواسطة Blogger.